والمقصود منها إثبات المعاد ، قوله تعالى : { أو كالذي مر على قرية وهى خاوية على عروشها } .
المسألة الأولى : اختلف النحويون في إدخال الكاف في قوله { أو كالذي } وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول : أن يكون قوله { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم } [ البقرة : 258 ] في معنى ( ألم تر كالذي حاج إبراهيم ) وتكون هذه الآية معطوفة عليه ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم ، أو كالذي مر على قرية ، فيكون هذا عطفا على المعنى ، وهو قول الكسائي والفراء وأبي علي الفارسي ، وأكثر النحويين قالوا : ونظيره من القرآن قوله تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله } [ المؤمنون : 84 ، 85 ] ثم قال : { من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله } [ المؤمنون : 85 ، 86 ] فهذا عطف على المعنى لأن معناه : لمن السماوات ؟ فقيل لله . قال الشاعر :
معاوي إننا بشر فأسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا
والقول الثاني : وهو اختيار الأخفش : أن الكاف زائدة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج والذي مر على قرية .
والقول الثالث : وهو اختيار المبرد : أنا نضمر في الآية زيادة ، والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، وألم تر إلى من كان كالذي مر على قرية .
المسألة الثانية : اختلفوا في الذي مر بالقرية ، فقال قوم : كان رجلا كافرا شاكا في البعث وهو قول مجاهد وأكثر المفسرين من المعتزلة ، وقال الباقون : إنه كان مسلما ، ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس : هو أرمياء ، ثم من هؤلاء من قال : إن أرمياء هو الخضر عليه السلام ، وهو رجل من سبط هارون بن عمران عليهما السلام ، وهو قول محمد بن إسحاق ، وقال وهب بن منبه : إن أرمياء هو النبي الذي بعثه الله عندما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة ، حجة من قال : إن هذا المار كان كافرا وجوه الأول : أن الله حكى عنه أنه قال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } وهذا كلام من يستبعد من الله الإحياء بعد الإماتة وذلك كفر .
فإن قيل : يجوز أن ذلك وقع منه قبل البلوغ .
قلنا : لو كان كذلك لم يجز من الله تعالى أن يعجب رسوله منه إذ الصبي لا يتعجب من شكه في مثل ذلك ، وهذه الحجة ضعيفة لاحتمال أن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشك في قدرة الله تعالى على ذلك ، بل كان بسبب اطراد العادات في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معمورا وهذا كما أن الواحد منا يشير إلى جبل ، فيقول : متى يقلبه الله ذهبا ، أو ياقوتا ، لا أن مراده منه الشك في قدرة الله تعالى ، بل على أن مراده منه أن ذلك لا يقع ولا يحصل في مطرد العادات ، فكذا ههنا .
الوجه الثاني : قالوا : إنه تعالى قال في حقه { فلما تبين له } وهذا يدل على أنه قبل ذلك لم يكن ذلك التبين حاصلا له وهذا أيضا ضعيف لأن تبين الإحياء على سبيل المشاهدة ما كان حاصلا له قبل ذلك ، فأما أن تبين ذلك على سبيل الاستدلال ما كان حاصلا فهو ممنوع .
الوجه الثالث : أنه قال : { أعلم أن الله على كل شيء قدير } وهذا يدل على أن هذا العالم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وأنه كان خاليا عن مثل ذلك العلم قبل ذلك الوقت ، وهذا أيضا ضعيف لأن تلك المشاهدة لا شك أنها أفادت نوع توكيد وطمأنينة ووثوق ، وذلك القدر من التأكيد إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدل على أن أصل العلم ما كان حاصلا قبل ذلك .
الوجه الرابع : لهم أن هذا المار كان كافرا لانتظامه مع نمروذ في سلك واحد وهو ضعيف أيضا ، لأن قبله وإن كان قصة نمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ، فوجب أن يكون نبيا من جنس إبراهيم .
وحجة من قال : إنه كان مؤمنا وكان نبيا وجوه الأول : أن قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } يدل على أنه كان عالما بالله ، وعلى أنه كان عالما بأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء إنما يصح أن لو حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة فأما من يعتقد أن القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة .
الحجة الثانية : أن قوله { كم لبثت } لا بد له من قائل والمذكور السابق هو الله تعالى فصار التقدير : قال الله تعالى : { كم لبثت } فقال ذلك الإنسان { لبثت يوما أو بعض يوم } فقال الله تعالى : { بل لبثت مائة عام } ومما يؤكد أن قائل هذا القول هو الله تعالى قوله { ولنجعلك آية للناس } ومن المعلوم أن القادر على جعله آية للناس هو الله تعالى ، ثم قال : { وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } ولا شك أن قائل هذا القول هو الله تعالى ؛ فثبت أن هذه الآية دالة من هذه الوجوه الكثيرة على أنه تكلم معه ، ومعلوم أن هذا لا يليق بحال هذا الكافر .
فإن قيل : لعله تعالى بعث إليه رسولا أو ملكا حتى قال له هذا القول عن الله تعالى .
قلنا : ظاهر هذا الكلام يدل على أن قائل هذه الأقوال معه هو الله تعالى ، فصرف اللفظ عن هذا الظاهر إلى المجاز من غير دليل يوجبه غير جائز .
والحجة الثالثة : أن إعادته حيا وإبقاء الطعام والشراب على حالهما ، وإعادة الحمار حيا بعد ما صار رميما مع كونه مشاهدا لإعادة أجزاء الحمار إلى التركيب وإلى الحياة إكرام عظيم وتشريف كريم ، وذلك لا يليق بحال الكافر له .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كل هذه الأشياء إنما أدخلها الله تعالى في الوجود إكراما لإنسان آخر كان نبيا في ذلك الزمان .
قلنا : لم يجر في هذه الآية ذكر هذا النبي ، وليس في هذه القصة حالة مشعرة بوجود النبي أصلا فلو كان المقصود من إظهار هذه الأشياء إكرام ذلك النبي وتأييد رسالته بالمعجزة لكان ترك ذكر ذلك الرسول إهمالا لما هو الغرض الأصلي من الكلام وأنه لا يجوز .
فإن قيل : لو كان ذلك الشخص لكان إما أن يقال : إنه ادعى النبوة من قبل الإماتة والإحياء أو بعدهما ، والأول : باطل ، لأن إرسال النبي من قبل الله يكون لمصلحة تعود على الأمة ، وذلك لا يتم بعد الإماتة ، وإن ادعى النبوة بعد الإحياء فالمعجز قد تقدم على الدعوى ، وذلك غير جائز .
قلنا : إظهار خوارق العادات على يد من يعلم الله أنه سيصير رسولا جائز عندنا ، وعلى هذا الطريق زال السؤال .
الحجة الرابعة : أنه تعالى قال في حق هذا الشخص { ولنجعلك آية للناس } وهذا اللفظ إنما يستعمل في حق الأنبياء والرسل قال تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] فكان هذا وعدا من الله تعالى بأنه يجعله نبيا ، وأيضا فهذا الكلام لم يدل على النبوة بصريحه فلا شك أنه يفيد التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر وعلى الشك في قدرة الله تعالى .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من جعله آية أن من عرفه من الناس شابا كاملا إذا شاهدوه بعد مائة سنة على شبابه وقد شاخوا أو هرموا ، أو سمعوا بالخبر أنه كان مات منذ زمان وقد عاد شابا صح أن يقال لأجل ذلك إنه آية للناس لأنهم يعتبرون بذلك ويعرفون به قدرة الله تعالى ، ونبوة نبي ذلك الزمان .
والجواب من وجهين الأول : أن قوله { ولنجعلك آية } إخبار عن أنه تعالى يجعله آية ، وهذا الإخبار إنما وقع بعد أن أحياه الله ، وتكلم معه ، والمجعول لا يجعل ثانيا ، فوجب حمل قوله { ولنجعلك آية للناس } على أمر زائد عن هذا الإحياء ، وأنتم تحملونه على نفس هذا الإحياء فكان باطلا والثاني : أنه وجه التمسك أن قوله { ولنجعلك آية للناس } يدل على التشريف العظيم ، وذلك لا يليق بحال من مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى .
الحجة الخامسة : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول الآية قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثيرون ، ومنهم عزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى بابل ، فدخل عزير يوما تلك القرية ونزل تحت شجرة وهو على حمار ، فربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا فعجب من ذلك وقال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } لا على سبيل الشك في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ونام ، فأماته الله تعالى في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عن موته أيضا الإنس والسباع والطير ، ثم أحياه الله تعالى بعد المائة ونودي من السماء : يا عزير { كم لبثت } بعد الموت فقال { يوما } فأبصر من الشمس بقية فقال { أو بعض يوم } فقال الله تعالى : { بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } من التين والعنب وشرابك من العصير لم يتغير طعمهما ، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما ثم قال : { وانظر إلى حمارك } فنظر فإذا هو عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله وسمع صوتا أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحا فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ، ثم التصق كل عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ثم جاء الرأس إلى مكانه ثم العصب والعروق ثم أنبت طراء اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور عن الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق فخر عزير ساجدا ، وقال : { أعلم أن الله على كل شيء قدير } ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرخياء مات ببابل ، وقد كان بختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفا ممن قرأ التوراة وكان فيهم عزير ، والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفا ، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير بن الله ، وهذه الرواية مشهورة فيما بين الناس ، وذلك يدل على أن ذلك المار كان نبيا .
المسألة الثالثة : اختلفوا في تلك القرية فقال وهب وقتادة وعكرمة والربيع : إيلياء وهي بيت المقدس ، وقال ابن زيد : هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت .
أما قوله تعالى : { وهى خاوية على عروشها } قال الأصمعي : خوي البيت فهو يخوي خواء ممدود إذا ما خلا من أهله ، والخوا : خلو البطن من الطعام ، وفي الحديث : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوي » أي خلى ما بين عضديه وجنبيه ، وبطنه وفخذيه ، وخوي الفرس ما بين قوائمه ، ثم يقال للبيت إذا انهدم : خوي لأنه بتهدمه يخلو من أهله ، وكذلك : خوت النجوم وأخوت إذا سقطت ولم تمطر لأنها خلت عن المطر ، والعرش سقف البيت ، والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب يقال : عرش الرجل يعرش ويعرش إذا بني وسقف بخشب ، فقوله : { وهى خاوية على عروشها } أي منهدمة ساقطة خراب ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وفيه وجوه أحدها : أن حيطانها كانت قائمة وقد تهدمت سقوفها ، ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المنهدمة ، ومعنى الخاوية المنقلعة وهي المنقلعة من أصولها يدل عليه قوله تعالى : { أعجاز نخل خاوية } [ الحاقة : 7 ] وموضع آخر { أعجاز نخل منقعر } [ القمر : 20 ] وهذه الصفة في خراب المنازل من أحسن ما يوصف به والثاني : قوله تعالى : { خاوية على عروشها } أي خاوية عن عروشها ، جعل ( على ) بمعنى ( عن ) كقوله { إذا اكتالوا على الناس } [ المطففين : 2 ] أي عنهم والثالث : أن المراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة فكان التعجب من ذلك أكثر ، لأن الغالب من القرية الخالية الخاوية أن يبطل ما فيها من عروش الفاكهة ، فلما خربت القرية مع بقاء عروشها كان التعجب أكثر .
أما قوله تعالى : { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } فقد ذكرنا أن من قال : المار كان كافرا حمله على الشك في قدرة الله تعالى ، ومن قال كان نبيا حمله على الاستبعاد بحسب مجاري العرف والعادة أو كان المقصود منه طلب زيادة الدلائل لأجل التأكيد ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقوله { أنى } أي من أين كقوله { أنى لك هذا } [ آل عمران : 37 ] والمراد بإحياء هذه القرية عمارتها ، أي متى يفعل الله تعالى ذلك ، على معنى أنه لا يفعله فأحب الله أن يريه في نفسه ، وفي إحياء القرية آية { فأماته الله مائة عام } وقد ذكرنا القصة .
فإن قيل : ما الفائدة في إماتة الله له مائة عام ، مع أن الاستدلال بالإحياء يوم أو بعد بعض يوم حاصل .
قلنا : لأن الإحياء بعد تراخي المدة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدة ، وأيضا فلأن بعد تراخي المدة ما يشاهد منه ، ويشاهد هو من غيره أعجب .
أما قوله تعالى : { ثم بعثه } فالمعنى : ثم أحياه ، ويوم القيامة يسمى يوم البعث لأنهم يبعثون من قبورهم ، وأصله من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها ، وإنما قال { ثم بعثه } ولم يقل : ثم أحياه لأن قوله { ثم بعثه } يدل على أنه عاد كما كان أولا حيا عاقلا فهما مستعدا للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال : ثم أحياه لم تحصل هذه الفوائد .
أما قوله تعالى : { قال كم لبثت } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : فيه وجهان من القراءة ، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإدغام والباقون بالإظهار ، فمن أدغم فلقرب المخرجين ومن أظهر فلتباين المخرجين وإن كانا قريبين .
المسألة الثانية : أجمعوا على أن قائل هذا القول هو الله تعالى وإنما عرف أن هذا الخطاب من الله تعالى ، لأن ذلك الخطاب كان مقرونا بالمعجز ، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره وظهور البلى في عظامه ما عرف به أن تلك الخوارق لم تصدر إلا من الله تعالى .
المسألة الثالثة : في الآية إشكال ، وهو أن الله تعالى كان عالما بأنه كان ميتا وكان عالما بأن الميت لا يمكنه بعد أن صار حيا أن يعلم أن مدة موته كانت طويلة أم قصيرة ، فمع ذلك لأي حكمة سأله عن مقدار تلك المدة .
والجواب عنه : أن المقصود من هذا السؤال التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق .
أما قوله تعالى : { لبثت يوما أو بعض يوم } ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم ذكر هذا الترديد ؟ .
الجواب : أن الميت طالت مدة موته أو قصرت فالحال واحدة بالنسبة إليه فأجاب بأقل ما يمكن أن يكون ميتا لأنه اليقين ، وفي التفسير أن إماتته كانت في أول النهار ، فقال { يوما } ثم لما نظر إلى ضوء الشمس باقيا على رؤوس الجدران فقال : { أو بعض يوم } .
السؤال الثاني : أنه لما كان اللبث مائة عام ، ثم قال : { لبثت يوما أو بعض يوم } أليس هذا يكون كذبا ؟ .
والجواب : أنه قال ذلك على حسب الظن ، ولا يكون مؤاخذا بهذا الكذب ، ونظيره أنه تعالى حكى عن أصحاب الكهف أنهم قالوا { لبثنا يوما أو بعض يوم } [ الكهف : 19 ] على ما توهموه ووقع عندهم ، وأيضا قال أخوة يوسف عليه السلام : { يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا } [ يوسف : 81 ] وإنما قالوا : ذلك بناء على الأمارة من إخراج الصواع من رحله .
السؤال الثالث : هل علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، أو لم يعلم ذلك بل كان يعتقد أن ذلك اللبث بسبب الموت .
الجواب : الأظهر أنه علم أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وذلك لأن الغرض الأصلي في إماتته ثم إحيائه بعد مائة عام أن يشاهد الإحياء بعد الإماتة وذلك لا يحصل إلا إذا عرف أن ذلك اللبث كان بسبب الموت ، وهو أيضا قد شاهد إما في نفسه ، أو في حماره أحوالا دالة على أن ذلك اللبث كان بسبب الموت .
أما قوله تعالى : { قال بل لبثت مائة عام } فالمعنى ظاهر ، وقيل : العام أصله من العوم الذي هو السباحة ، لأن فيه سبحا طويلا لا يمكن من التصرف فيه .
أما قوله تعالى : { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف القراء في إثبات الهاء في الوصل من قوله { لم يتسنه } و { اقتده } و { ماليه } و { سلطانيه } و { ماهيه } بعد أن اتفقوا على إثباتها في الوقف ، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم هذه الحروف كلها بإثبات الهاء في الوصل ، وكان حمزة يحذفهن في الوصل وكان الكسائي يحذف الهاء في الوصل من قوله { وشرابك لم يتسنه } و { اقتده } ويثبتها في الوصل في الباقي ولم يختلفوا في قوله { لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه } [ الحاقة : 25 ، 26 ] أنها بالهاء في الوصل والوقف .
إذا عرفت هذا فنقول : أما الحذف ففيه وجوه أحدهما : أن اشتقاق قوله { يتسنه } من السنة وزعم كثير من الناس أن أصل السنة سنوة ، قالوا : والدليل عليه أنهم يقولون في الاشتقاق منها أسنت القوم إذا أصابتهم السنة ، وقال الشاعر :
ويقولون في جمعها : سنوات وفي الفعل منها : سانيت الرجل مساناة إذا عامله سنة سنة ، وفي التصغير : سنية إذا ثبت هذا كان الهاء في قوله { لم يتسنه } للسكت لا للأصل وثانيها : نقل الواحدي عن الفراء أنه قال : يجوز أن تكون أصل سنة سننة ، لأنهم قالوا في تصغيرها : سنينة وإن كان ذلك قليلا ، فعلى هذا يجوز أن يكون { لم يتسنه } أصله لم يتسنن ، ثم أسقطت النون الأخيرة ثم أدخل عليها هاء السكت عن الوقف عليه كما أن أصل لم ينقض البازي لم ينقضض البازي ثم أسقطت الضاد الأخيرة ، ثم أدخل عليه هاء السكت عند الوقف ، فيقال : لم ينقضه وثالثها : أن يكون { لم يتسنه } مأخوذا من قوله تعالى : { من حمإ مسنون } [ الحجر : 26 ] والسن في اللغة هو الصب ، هكذا قال أبو علي الفارسي ، فقوله : لم يتسنن . أي الشراب بقي بحاله لم ينضب ، وقد أتى عليه مائة عام ، ثم أنه حذفت النون الأخيرة وأبدلت بها السكت عند الوقف على ما قررناه في الوجه الثاني ، فهذه الوجوه الثلاثة لبيان الحذف ، وأما بيان الإثبات فهو أن { لم يتسنه } مأخوذ من السنة ، والسنة أصلها سنهه ، بدليل أنه يقال في تصغيرها : سنيهة ، ويقال : سانهت النخلة بمعنى عاومت ، وآجرت الدار مسانهة ، وإذا كان كذلك فالهاء في { لم يتسنه } لام الفعل ، فلا جرم لم يحذف البتة لا عند الوصل ولا عند الوقف .
المسألة الثانية : قوله تعالى : { لم يتسنه } أي لم يتغير وأصل معنى { لم يتسنه } أي لم يأت عليه السنون لأن مر السنين إذا لم يتغير فكأنها لم تأت عليه ، ونقلنا عن أبي علي الفارسي : لم يتسنن أي لم ينضب الشراب ، بقي في الآية سؤالان :
السؤال الأول : أنه تعالى لما قال : { بل لبثت مائة عام } كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرا على ما قاله من أنه لبث يوما أو بعض يوم .
والجواب : أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال : { بل لبثت مائة عام } قال : { فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } فإن هذا مما يؤكد قولك { لبثت يوما أو بعض يوم } فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة ، ثم قال بعده { وانظر إلى حمارك } فرأى الحمار صار رميما وعظاما نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما ، والحمار ربما بقي دهرا طويلا وزمانا عظيما ، فرأى ما لا يبقى باقيا ، وهو الطعام والشراب ، وما يبقى غير باق وهو العظام ، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى ، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه .
السؤال الثاني : أنه تعالى ذكر الطعام والشراب ، وقوله { لم يتسنه } راجع إلى الشراب لا إلى الطعام .
والجواب : كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير ، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير ، لاسيما إذا كان الطعام لطيفا يتسارع الفساد إليه ، والمروى أن طعامه كان التين والعنب ، وشرابه كان عصير العنب واللبن ، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ( وانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن ) .
أما قوله تعالى : { وانظر إلى حمارك } فالمعنى أنه عرفه طول مدة موته بأن شاهد عظام حماره نخرة رميمة ، وهذا في الحقيقة لا يدل بذاته ، لأنه لما شاهد انقلاب العظام النخرة حيا في الحال علم أن القادر على ذلك قادر على أن يميت الحمار في الحال ويجعل عظامه رميمة نخرة في الحال ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طول مدة الموت ، بل انقلاب عظام الحمار إلى الحياة معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله { بل لبثت مائة عام } قال الضحاك : معنى قوله أنه لما أحيى بعد الموت كان دليلا على صحة البعث ، وقال غيره : كان آية لأن الله تعالى أحياه شابا أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحي والرؤوس .
أما قوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } فقد بينا أن المراد منه التشريف والتعظيم والوعد بالدرجة العالية في الدين والدنيا ، وذلك لا يليق بمن مات على الكفر والشك في قدرة الله تعالى .
فإن قيل : ما فائدة الواو في قوله { ولنجعلك } قلنا : قال الفراء : دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال : وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطا ، وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام ، أما لما قال : { ولنجعلك آية } كان المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء ، ومثله قوله تعالى : { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست } [ الأنعام : 105 ] والمعنى : وليقولوا درست صرفنا الآيات { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] أي ونريه الملكوت .
أما قوله تعالى : { وانظر إلى العظام } فأكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، فإن اللام فيه بدل الكناية ، وقال آخرون أرادوا به عظام هذا الرجل نفسه ، قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه ، وكانت بقية بدنه عظاما نخرة ، فكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض ، وكان يرى حماره واقفا كما ربطه حين كان حيا لم يأكل ولم يشرب مائة عام ، وتقدير الكلام على هذا الوجه : وانظر إلى عظامك ، وهذا قول قتادة والربيع وابن زيد ، وهو عندي ضعيف لوجوه أحدها : أن قوله { لبثت يوما أو بعض يوم } إنما يليق بمن لا يرى أثر التغير في نفسه فيظن أنه كان نائما في بعض يوم ، أما من شاهد أجزاء بدنة متفرقة ، وعظام بدنة رميمة نخرة ، فلا يليق به ذلك القول وثانيها : أنه تعالى حكي عنه أن خاطبه وأجاب ، فيجب أن يكون المجيب هو الذي أماته الله ، فإذا كانت الإماتة راجعة إلي كله ، فالمجيب أيضا الذي بعثه الله يجب أن يكون جملة الشخص وثالثها : أن قوله { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } يدل على أن تلك الجملة أحياها وبعثها .
أما قوله { كيف ننشرها } فالمراد يحييها ، يقال : أنشر الله الميت ونشره ، قال تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهى رميم ، قل يحييها } [ يس : 78 ، 79 ] وقرئ { ننشرها } بفتح النون وضم الشين ، قال الفراء : كأنه ذهب إلى النشر بعد الطي ، وذلك أن بالحياة يكون الانبساط في التصرف ، فهو كأنه مطوي ما دام ميتا ، فإذا عاد صار كأنه نشر بعد الطي ، وقرأ حمزة والكسائي { كيف ننشزها } بالزاي المنقوطة من فوق ، والمعنى نرفع بعضها إلى بعض ، وانشاز الشيء رفعه ، يقال أنشزته فنشز ، أي رفعته فارتفع ، ويقال لما ارتفع من الأرض نشز ، ومنه نشوز المرأة ، وهو أن ترتفع عن حد رضا الزوج ، ومعنى الآية على هذه القراءة : كيف نرفعها من الأرض فتردها إلى أماكنها من الجسد ونركب بعضها على البعض ، وروي عن النخعي أنه كان يقرأ { ننشزها } بفتح النون وضم الشين والزاي ووجهه ما قال الأخفش أنه يقال : نشزته وأنشزته أي رفعته ، والمعنى من جميع القراءات أنه تعالى ركب العظام بعضها على بعض حتى اتصلت على نظام ، ثم بسط اللحم عليها ، ونشر العروق والأعصاب واللحوم والجلود عليها ، ورفع بعضه إلى جنب البعض ، فيكون كل القراءات داخلا في ذلك .
ثم قال تعالى : { فلما تبين له } وهذا راجع إلى ما تقدم ذكره من قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } والمعنى فلما تبين له وقوع ما كان يستبعد وقوعه وقال صاحب «الكشاف » : فاعل { تبين له } مضمر تقديره فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال : { أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا عندي فيه تعسف ، بل الصحيح أنه لما تبين له أمر الإماتة والإحياء على سبيل المشاهدة قال : { أعلم أن الله على كل شيء قدير } وتأويله : أني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك الاستدلال وقرأ حمزة والكسائي { قال أعلم } على لفظ الأمر وفيه وجهان أحدهما : أنه عند التبين أمر نفسه بذلك ، قال الأعشى :
والثاني : أن الله تعالى قال : { أعلم أن الله على كل شيء قدير } ويدل على صحة هذا التأويل قراءة عبد الله والأعمش : قيل أعلم أن الله على كل شيء قدير ويؤكده قوله في قصة إبراهيم { ربي أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] ثم قال في آخرها { واعلم أن الله عزيز حكيم } [ البقرة : 260 ] قال القاضي : والقراءة الأولى وذلك لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله { فلما تبين له } فكان الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك غير جائز ، أما الإخبار عن أنه حصل كان جائزا .