السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

{ أو كالذي مرّ على قرية } فيه حذف تقديره أوَ رأيت مثل الذي ، فحذف لدلالة ألم تر عليه ، لأن كلتيهما كلمة تعجب ، وتخصيصه بحرف التشبيه ، لأنّ المنكرين للإحياء كثير والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى ، بخلاف مدّعي الربوبية وقيل : الكاف مزيدة ، وتقدير الكلام ألم تر إلى الذي حاج أو إلى الذي مرّ ، والمار عزير بن شرحيا أو الخضر أو الكافر بالبعث ، ويؤيد هذا نظمه مع نمروذ في سلك وكلمة الاستبعاد التي هي . أنّى يحيي ، وأكثر المفسرين على الأوّل والقرية بيت المقدس حين خربها بختنصر وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه تراباً فيقذفه في بيت المقدس ، ففعلوا حتى ملؤوه ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده صغيرهم وكبيرهم من بني إسرائيل ، فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه ، فأصاب كل رجل منهم أربعة ، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ، فثلثاً قتلهم ، وثلثاً سباهم وثلثاً أقرهم بالشام وقيل : هي القرية التي خرج منها الألوف وقيل غيرهما { وهي خاوية } أي : ساقطة { على عروشها } أي : سقوفها بأن سقط السقف أولاً ثم سقطت الجدران عليه ، لما أخربها بختنصر { قال أنى } أي : كيف { يحيي هذه الله بعد موتها } أي : بما صارت إليه من الخراب وذهاب الأهل ، فيعيدها إلى ما كانت عليه عامرة آهلة ، وهذا اعتراف بالعجز من معرفة طريق الإحياء ، واستعظام لقدرة المحيي ، إن كان القائل مؤمناً واستبعاد إن كان كافراً .

{ فأماته الله } وألبثه { مائة عام } ميتاً { ثم بعثه } بالإحياء ليريه كيفية ذلك { قال كم لبثت } أي : مكثت أي : لما أحياه الله بعث إليه ملكاً فسأله كم لبثت ؟ وعن ابن عباس أن عزيراً كان عبداً صالحاً حكيماً خرج ذات يوم إلى ضيعة له يتعاهدها ، فلما انصرف انتهى إلى خربة حين قامت الظهيرة فأصابه الحرّ ، فدخل الخربة وهو على حمار له فنزل عن حماره ومعه سلّة فيها تين وسلة فيها عنب ، فنزل في ظلّ تلك الخربة وأخرج قصعة كانت معه ، فاعتصر من العنب الذي كان معه في القصعة ، ثم أخرج خبزاً يابساً معه فألقاه في تلك القصعة في العصر ليبتل فيأكله ، ثم استلقى على قفاه وأسند رجليه إلى الحائط فنظر سقف تلك البيوت ورأى ما فيها وهي ساقطة على عروشها ورأى عظاماً بالية فقال : { أنى يحيى هذه الله بعد موتها } فلم يشك أنّ الله يحييها ولكن قالها تعجباً ، فبعث الله ملك الموت فقبض روحه فأماته الله مائة عام ، فلما أتت عليه مائة عام ، وكان فيما بين ذلك في بني إسرائيل أمور وأحداث فبعث الله إلى عزير ملكاً فخلق قلبه ليعقل به وعينيه لينظر بهما فيعقل كيف يحيي الله الموتى ، ثم ركّب خلقه وهو ينظر ثم كسا عظامه اللحم والشعر والجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، كل ذلك يرى ويعقل فاستوى جالساً فقال له الملك : كم لبثت ؟ { قال لبثت يوماً } وذلك أنّ الله تعالى أماته ضحى في أول النهار وأحياه بعد مائة عام في آخر النهار قبل غيبوبة الشمس فقال : لبثت يوماً وهو يرى أنّ الشمس قد غربت ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : { أو بعض يوم } أي : بل بعض يوم { قال } أي : الله أو الملك له { بل لبثت مائة عام } قرأ نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة في كم لبثت ، وفي قال : لبثت وفي بل لبثت ، والباقون بالإدغام .

ثم قال له الله أو الملك { فانظر إلى طعامك } وكان تيناً أو عنباً { وشرابك } وكان عصيراً أو لبناً { لم يتسنه } أي : لم يتغير بمرور الزمان فكان التين أو العنب كأنه قد قطف من ساعته والعصير كأنه قد عصر أو اللبن قد حلب من ساعته قال الكسائيّ أي : كأنه لم يأت عليه السنون ، وإنما أفرد الضمير لأنّ الطعام والشراب كالجنس الواحد .

فإن قيل : إذا كان المارّ كافراً فكيف يسوغ أن يكلمه الله ؟ أجاب الزمخشريّ بأنّ الكلام كان بعد البعث ولم يك إذ ذاك كافراً وقال أبو حيان : لا نص في الآية ، إنّ الله كلمه شفاهاً ، وقرأ حمزة والكسائيّ لم يتسنّ بإسقاط الهاء إذا وصلها بما بعدها ، والباقون بإثباتها وفي الوقت ثابتة للجميع .

{ وانظر إلى حمارك } كيف هو فرآه ميتاً وعظامه بيض وكان له حمار قد ربطه ، وقيل : رآه حياً مكانه كما ربطه حفظ بلا ماء ولا علف ، كما حفظ الطعام والشراب من التغير .

وقوله تعالى : { ولنجعلك آية للناس } معطوف على محذوف تقديره فعلنا ذلك لتعلم ولنجعلك آية وقيل : الواو زائدة مقحمة أي : لنجعلك عبرة ودلالة على البعث بعد الموت { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالراء ومعناه نحييها ، والباقون بالزاي ومعناه نرفعها من الأرض ونردّها إلى أماكنها من الجسد .

وفي الآية تقديم وتأخير وتقديرها : وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشرها ولنجعلك آية للناس ، واختلفوا في معنى الآية فقال الأكثرون : إنه أراد به عظام حماره وهذا يؤيد كون حماره كان ميتاً قال السديّ : إن الله أحيا عزيراً ثم قال له : انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه ، فبعث الله ريحاً فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ، الذي ذهبت به الطيور والسباع ، فاجتمعت فركب بعضها في بعض ، وهو ينظر فصار حماراً من عظام ليس فيه لحم ولا دم ثم كسا العظام لحماً ودماً كما قال تعالى : { ثم نكسوها لحماً } فصار حماراً لا روح فيه ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى ، وقال الأقلّون : أراد به عظام هذا الرجل فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت ثم قال : انظر إلى حمارك فنظر فرأى حماره قائماً واقفاً كهيئته يوم ربطه ، وهذا يؤيد كون حماره كان حياً وذلك من أعظم الآيات أن يعيش مائة عام من غير علف ولا ماء قال الضحاك وقتادة : وتقدير أي على هذا وانظر إلى حمارك وانظر إلى عظامك كيف ننشرها .

روي أن عزيراً لما أحياه الله تعالى ركب حماره حتى أتى محلته ، فأنكره الناس وأنكر الناس ومنازله ، فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لهم ، فخرج عزير عنهم وهي بنت عشرين سنة فقال لها عزير : يا هذه هذا منزل عزير قالت : نعم هذا منزل عزير وبكت ، وقالت : ما رأيت أحداً من كذا وكذا سنة يذكر عزيراً فقال : فإني أنا عزير فقالت : سبحان الله فإن عزيراً فقدناه من مائة سنة ، لم نسمع له بذكر ، قال : إنّ الله أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت : فإنّ عزيراً كان رجلاً مستجاب الدعوة يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية ، فادع الله أن يردّ عليّ بصري حتى أراك ، فإن كنت عزيراً عرفتك ، فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال : قومي بإذن الله تعالى ، فأطلق الله رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال ، فنظرت إليه فقالت : أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل ، وهم في أنديتهم ومجالسهم وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة ، وبنو بنيه شيوخ في المجلس ، قال الضحاك : عاد إلى قريته شاباً وأولاده وأولاد أولاده شيوخ وعجائز ، وهو أسود الرأس واللحية ، فقالت : هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت : أنا فلانة مولاتكم دعا لي ربه فردّ عليّ بصري وأطلق رجلي ، وزعم أنّ الله أماته مائة عام ثم بعثه ، فنهض الناس وأقبلوا عليه ونظروا إليه ، وقال ابنه : كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه ، فكشف عن كتفيه فإذا هو عزير ، فقال بنو إسرائيل : فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير ، فقرأ لهم التوراة من الحفظ ولم يحفظها أحد قبله ، فعرفوه بذلك وقالوا : هو ابن الله .

وسيأتي الكلام على ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى .

{ فلما تبين له } ذلك بالمشاهدة وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبيّن له أنّ الله على كل شيء قدير { قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير } فحذف من الأوّل لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً ، وقرأ حمزة والكسائيّ بوصل الهمزة قبل العين وسكون الميم ، والباقون بقطع الهمزة ورفع الميم .