الخاوي : الخالي ، خوت الدار تخوى خوىً غير ممدود ، وخوياً ، والأولى أفصح ، ويقال خوى البيت انهدم لأنه بتهدّمه يخلو من أهله ، والخوى : الجوع : لخلو البطن من الغذاء ، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة ، وخويت لها تخويةً علمت لها خوية تأكلها ، وهي طعام .
والخوي على وزن فعيل : البطن السهل من الأرض ، وخوي البعير جافَى بطنه عن الأرض في مبركه ، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز :
العرش : سقف البيت ، وكل ما يهيأ ليُظلَّ أو يِكُنَّ فهو عريش الدالية ، وقال تعالى : { ومما يعرشون } وفي الحديث " لما أمر ببناء المسجد قالوا : نبنيه لك بنياناً قال : «لا بل عرش كعرش أخي موسى » فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه بالجريد وسعفه " ، وقيل : العرش البنيان قال الشاعر :
مائة : اسم لرتبة من العدد معروفة ، ويجمع على مئات ومئين ، وهي مخففة محذوفة اللام ، ولا مها ياء ، فالأصل مئية ، ويقال : أمأيتُ الدراهم إذا صيرتها مائة ، وأمأَتْ هي ، أي : صارت مائة .
العام : مدّة من الزمان معروفة ، وألفه منقلبة عن واو ، لقولهم : العويم والأعوام .
وقال النقاش : العام مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك ، والعوم كالسبح ، وقال تعالى { وكل في فلك يسبحون } والعام على هذا : كالقول والقال .
يتسنه : إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاءً ، قالوا في التصغير : سنيهة ، وفي الجمع سنهات .
وقالوا : سانهت وأسنهت عند بني فلان ، وهي لغة الحجاز وقال الشاعر :
وإن كانت الهاء للسكت ، وهو اختيار المبرد ، فلام الكلمة محذوفة للجازم ، وهي ألف منقلبة عن واو على من يجعل لام سنة المحذوف واواً .
لقولهم : سنية وسنوات ، واشتق منه الفعل ، فقيل : سانيت وأسنى وأسنت .
أبدل من الواو تاءً ، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون ، فتكون من المسنون أي : المتغير ، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال ، كما قالوا : تظنى ، ويتلعى الأصل تظنن ويتلعع ، قاله أبو عمر ، وخطأه الزجاج .
قال : لأن المسنون : المصبوب على سنة الطريق وصوبه .
وقال النقاش : هو من قوله من ماء غير آسنٍ ورد النحاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن ، لأنك لو بنيت تفعل من الأكل لقلت تأكل ، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب ، وجعل فاء الكلمة مكان اللام ، وعينها مكان الفاء ، فصار : تسنأ ، وأصله تأسن ، ثم أبدلت الهمزة كما قالوا في : هدأ وقرأ واستقر ، أهدا وقرا واستقرا .
الحمار : هو الحيوان المعروف ، ويجمع في القلة على : أفعلة قالوا : أحمرة ، وفي الكثرة على : فُعُل ، قالوا : حمر ، وعلى : فعيل ، قالوا : حمير .
أنشر : الله الموتى ، ونشرهم ، ونشر الميت حيي قال الشاعر :
وأما : أنشز ، بالزاي فمن النشز ، وهو ما ارتفع من الأرض ، ومعنى : أنشز الشيء جعله ناشزاً ، أي : مرتفعاً ، ومنه : انشزوا فانشزوا ، وامرأة ناشز ، أي : مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج .
{ أو كالذي مرّ على قرية } قرأ الجمهور : أو ، ساكنة الواو ، قيل : ومعناها التفصيل ، وقيل : التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما .
وقرأ أبو سفيان بن حسين : أوَ كالذي ، بفتح الواو ، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التقرير ، والتقدير : وأرأيت مثل الذي ؛ ومن قرأ : أو ، بحرف العطف فجمهور المفسرين أنه معطوف على قوله : { ألم تر إلى الذي حاج } على المعنى ، إذ معنى : ألم تر إلى الذي ؟ أرأيت كالذي حاجّ ؟ فعطف قوله : أو كالذي مر ، على هذا المعنى ، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب قال الشاعر :
المعنى في قوله : لم يكثر : ليس بمكثر : ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله : ولا بحقلد .
المعنى : أجدّك لست برآء ، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله : ولا متدارك ، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس .
وقال الزمخشري ، أو كالذي : معناه أورأيت مثل الذي ؟ فحذف لدلالة : ألم تر ؟ عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب . انتهى .
هو تخريج حسن ، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى ، وقد جوّز الزمخشري الوجه الأول .
وقيل : الكاف زائدة ، فيكون : الذي ، قد عطف على : الذي ، التقدير : ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم ؟ أو الذي مرّ على قرية ؟ قيل : كما زيدت في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وفي قوله الراجز :
ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل ، ولا على العطف على المعنى ، ولا على زيادة الكاف ، بل تكون الكاف اسماً على ما يذهب إليه أبو الحسن ، فتكون الكاف في موضع جر ، معطوفة على الذي ، التقدير : { ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم } أو إلى مثل { الذي مرّ على قرية } ؟ ومجيء الكاف اسماً فاعلة ، ومبتداً ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب ، وتأويلها بعيد ، فأَلاوْلى هذا الوجه الأخير ، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف ، حملاً على مشهور مذهب البصريين ، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن ، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر :
والكلام على الكاف يذكر في علم النحو .
والذي مر على قرية هو عزير ، قاله علي ، وابن عباس ، وعكرمة ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك ، والسدّي ، ومقاتل ، وسليمان بن بريدة ، وناجية بن كعب ، وسالم الخوّاص .
وقيل : أرمياء ، قاله وهب ، ومجاهد ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وبكر بن مضر .
وقال ابن إسحاق : هو أرمياء ، وهو الخضر ، وحكاه النقاش عن وهب .
قال ابن عطية : وهذا كما نراه إلاَّ أن يكون إسماً وافق اسماً ، لأن الخضر معاصر لموسى ، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب .
قال بعض شيوخنا ، يحتمل أن يكون الخضر بعينه ويكون من المعمرين ، فيكون أدرك زمان خراب القرية ، وهو إلى الآن باق على قول أكثر العلماء .
وقيل : على كافر مرّ على قرية وكان على حمار ومعه سلة تين ، قاله الحسن .
وقيل : رجل من بني إسرائيل غير مسمى ، قاله مجاهد فيما حكاه مكي .
وقيل : غلام لوط عليه السلام ، وقيل : شعياء .
والذي أحياها بعد خرابها : لوسك الفارسي ، حكاه السهيلي عن القتيبي .
والقرية : بيت المقدس ، قاله وهب ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والربيع .
أو : قرية العنب ، وهي على فرسخين من بيت المقدس ، أو : الأرض المقدسة ، قاله الضحاك ، أو : المؤتفكة ، قاله قوم ، أو : القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت ، قاله ابن زيد ، أو : دير هرقل ، قاله ابن عباس .
أو : شابور أباد ، قاله الكلبي ، أو : سلماياذ ، قاله السدّي .
{ وهي خاوية على عروشها } قيل : المعنى خاوية من أهلها ثابتة على عروشها ، فالبيوت قائمة .
ساقطة متهدّمة جدرانها على سقوفها بعد سقوط السقوف ، وقيل : على ، بمعنى : مع ، أي : مع أبنيتها ، والعروش على هذه الأبنية .
وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في : مر ، أو : من قرية ، والحال من النكرة إذا تأخرت تقل ، وقيل : الجملة في موضع الصفة للقرية ، ويبعد هذا القول الواو ، و : على ، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى : خاوية من أهلها ، أي : مستقرة على عروشها ، أو : بخاوية إذا كان المعنى ساقطة .
وقيل : على عروشها بدل من قوله : قرية ، أي : مر على عروشها ، وقيل : في موضع الصفة لقرية ، أي : مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية .
{ قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها } قيل : لما خرّب بخت نصر البابلي بيت المقدس ، حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث ، وقف أرمياء ، أو عزير ، على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس ، لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل ، فقال هذا الكلام .
قال الزمخشري : والمارّ كان كافراً بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك ، ولكلمة الاستبعاد التي هي : أنَّى يحيي ، وقيل : عزير ، أو : الخضر ، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم . انتهى .
وقال أبو علي : لا يجوز أن يكون نبياً لأن مثل هذا الشك لا يقع للأنبياء .
والإحياء والإماتة هنا مجازان ، عبر بالإحياء عن العمارة ، وبالموت عن الخراب .
وقيل : حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره : أنَّى يحيي أهل هذه القرية ، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية ، وجثثهم المتمزقة ، وأوصالهم المتفرقة ، فعلى القول بالمجاز يكون قوله : أنَّى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته ، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه ، وعلى القول الثاني يكون قوله : أنَّى يحيي اعترافاً بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاماً لقدرة المحيي ، وليس ذلك على سبيل الشك .
وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه .
{ فأمته الله مائة عام ثم بعثه } أي أحياه وجعل له الحركة والانتقال .
قيل : لما مر سبعون سنة من موته ، وقد منعه من السباع والطير ، ومنع العيون أن تراه ، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له لوسك ، فقال له : إن الله يأمرك أن تنفر بقومك ؛ فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت ، فانتدب الملك قيل ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل ، وجعلوا يعمرونها ، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه ، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردّهم إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة ، وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه .
الظاهر أن القائل هو الله تعالى لقوله : { كيف ننشزها } وقيل : هاتف من السماء ، وقيل : جبريل ، وقيل : نبي ، وقيل : رجل مؤمن شاهده حين مات وعمر إلى حين إحيائه .
وعلى اختيار الزمخشري لم يكن بعد البعث كافراً ، فلذلك ساغ أن يكلمه الله . انتهى .
ولا نص في الآية على أن الله كلَّمه شفاهاً .
و : كم ، ظرف ، أي : كم مدّة لبثت ؟ أي : لبثت ميتاً وهو سؤال على سبيل التقرير .
{ قال لبثت يوماً أو بعض يوم } قال ابن جريج ، وقتادة ، والربيع : أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب بعد مائة سنة ، فقال : قبل النظر إلى الشمس : يوماً ، ثم التفت فرأى بقية من الشمس ، فقال : أو بعض يوم ، فكان قوله : يوماً على سبيل الظنّ ، ثم لما تحقق أنه لم يكمل اليوم ، قال ؛ أو بعض يوم .
والأولى أن لا تكون ، أو ، هنا للترديد ، بل تكون للإضراب ، كأنه قال : بل بعض يوم ، لما لاحت له الشمس أضرب عن الإخبار الأول الذي كان على طريق الظنّ ، ثم أخبر بالثاني على طريق التيقن عنده .
وفي قوله : أو بعض يوم ، دليل على أنه يطلق لفظ بعض على أكثر الشيء .
{ قال بل لبثت مئة عام } بل ، لعطف هذه الجملة على الجملة محذوفة التقدير ، قال : ما لبثت هذه المدة بل : لبثت مائة عام .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم باظهار التاء في : لبثت وقرأ الباقون بالإدغام ، وذلك في جميع القرآن .
وذكر تعيين المدة هنا في قوله : بل لبثت مائة عام ، ولم يذكر تعيينها في قوله : { إن لبثتم إلاَّ قليلاً } وإن اشتركوا في جواب : { لبثنا يوماً أو بعض يوم } لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدّة إماتة الله إياه ، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا ، ومن مات في آخرها ، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص ، فلذلك أدرجوا تحت قوله : إلاَّ قليلاً ، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة ، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد ، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة .
{ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة ، فطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، وعامة شجرها حامل ، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه ، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق ، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال : أنى يحيي ؟ على سبيل التعجب ، لا شكاً في البعث ، وقيل : كان شرابه لبناً .
قيل : وجد التين والعنب كما تركه جنياً ، والشراب على حاله .
وقرأ حمزة ، والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت ، وقرأ باقي السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف ، والأظهر أن تكون الهاء أصلية ، ويحتمل أن يكون ذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقد تقدّم الكلام على هذه اللفظة في الكلام على المفردات ، وقرأ أُبيّ : لم يسنه ، بادغام التاء في السين ، كما قرئ : لا يسمعون ، والأصل : لا يتسمعون ، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره : لمائة سنة ، مكان : لم يتسنه .
وقرأ عبد الله : وهذا شرابك لم يتسنه ، والضمير في : يتسنه مفرد ، فيحتمل أن يكون عائداً على الشراب خاصة ، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه ، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين ، فعوملا معاملة المفرد ، أو لكونهما في معنى الغذاء ، فكأنه قيل : وانظر إلى غذائك لم يتسنه وقال الشاعر في المتلازمين :
والجملة من قوله : لم يتسنه ، في موضع الحال ، وهي منفية : بلم ، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بلم هو المختار ، كما قال الشاعر :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم***
ولم تكثر القتلى بها حين سُلَّت
وزعم بعضهم أنه إذا كان منفياً فالأولى أن ينفى : بلما ، نحو : جاء زيد ولما يضحك ، قال : وقد تكون منفية : بلم وما ، نحو : قام زيد ولم يضحك ، أو : ما يضحك ، وذلك قليل جداً .
وليس إثبات : الواو ، مع : لم ، أحسن من عدمها ، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحاً ، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع ، قال تعالى : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } وقال تعالى : { أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء } ومن قال : إن النفي بلم قليل جدّاً فغير مصيب ، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب : الحال ، في ( منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك ) من تأليفنا .
{ وانظر إلى حمارك } قيل : لما مضت المائة أحيا الله منه عينيه ، وسائرُ جسده ميت ، ثم أحيا جسده وهو ينظر .
ثم نظر إلى حماره ، فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح ، فسمع صوتاً من السماء : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع بعضها على بعض ، واتصلت ، ثم نودي : إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وجلداً ، فكان كذلك .
وروي أنه حين أحياه الله نهق ، وقيل : ردّ الله الحياة في عينيه وأخر جسده ميتاً ، فنظر إلى إيلياء وما حولها وهي تعمر وتجدّد ، ثم نظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير ، نظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ، ونظر إلى الجبل وهو لم يتغير وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها .
وقال وهب ، والضحاك : وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة .
قال الزمخشري : وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء ، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير .
{ ولنجعلك آية للناس } قيل : الواو ، مقحمة أي : لنجعلك آية ، وقيل : تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي : أريناك ذلك لتعلم قدرتنا ، ولنجعلك آية للناس .
وقيل : بفعل محذوف مقدر تأخيره ، أي : ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك ، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه .
وقال الأعمش : كونه آية هو أنه جاء شاباً على حاله يوم مات ، فوجد الحفدة والأبناء شيوخاً .
وقال عكرمة : جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات ، ووجد بنيه قد ينوفون على مائة سنة ، وقيل : كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف ، وكان آية لمن كان حياً من قومه ، إذ كانوا موقنين بحاله سماعاً ، وقيل : أتى قومه راكباً حماره ، وقال : أنا عزير ، فكذبوه ، فقال : هاتوا التوراة ، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب ، فما خرم حرفاً ، فقالوا هو : ابن الله .
ولم يقرأ التوراة ظاهراً أحد قبل عزير ، فذلك كونه آية .
وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية ، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض .
والألف واللام في : للناس ، للعهد إن غنى به مَن بقي مِن قومه ، أو مَن كان في عصره .
أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة .
{ وأنظر إلى العظام كيف ننشزها } يعني ، بالعظام عظام نفسه ، قاله قتادة ، والضحاك ، والربيع ، وابن زيد .
أو : عظام حماره ، أو عظامهما .
زاد الزمخشري : أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وهذا فيه بعد ، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا ، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة { وانظر إلى العظام كيف ننشزها } وإنما هذا قيل له في الدنيا ، فلا يمكن حمله إلاَّ على عظامه ، أو عظام حماره ، أو عظامهما .
والأظهر أن يراد عظام الحمار ، والتقدير : إلى العظام منه ، أو ، على رأى الكوفيين ، أن الألف واللام عوض من الضمير ، أي : إلى عظامه ، لأنه قد أخبر أنه بعثه ، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتاً ، ثم أعقب الأمر بالنظر بالفاء ، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر .
وقرأ الحرميان وأبو عمرو : ننشرها ، بضم النون والراء المهملة ، وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو حيوة ، وأبان عن عاصم : بفتح النون والراء المهملة ، وهما من أنشر ونشر بمعنى : أحيا .
ويحتمل نشر أن يكون ضد الطي ، كأن الموت طي العظام والأعضاء ، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر وقرأ باقي السبعة : ننشزها ، بضم النون والزاي المعجمة .
وقرأ النخعي : بفتح النون ، وضم الشين والزاي ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقتادة ، قاله ابن عطية .
وقال السجاوندي ، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي .
ومعنى : ننشزها ، بالزاي : نحركها ، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء ، يقال : نشز وأنشزته .
قال ابن عطية : وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض ، وإنما النشوز الارتفاع قليلاً ، فكأنه وقف على نبات العظام الرفاة ، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع .
وقال النقاشي : ننشزها معناه ننبتها ، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك ، ومن ذلك : نشز ناب البعير ، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك ، ونشزت المرأة ، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها ، وأنشزوا فأنشزوا أي ارتفعوا شيئاً فشيئاً كنشوز الناب ، فبذلك تكون التوسعة ، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع .
ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة : نشز .
وقرأ أُبيّ : كيف ننشيها ، بالياء أي نخلقها .
وقال بعضهم : العظام لا تحيى على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض ، فالزاي أولى بهذا المعنى ، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء ، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام .
فالمعنى : وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء . انتهى .
والقراءة بالراء متواترة ، فلا تكون قراءة الزاي أولى .
و : كيف ، منصوبة بننشرها نصب الأحوال ، وذو الحال مفعول ننشرها ، ولا يجوز أن يعمل فيها : انظر ، لأن الإستفهام لا يعمل فيه ما قبله .
وأعربوا : كيف ننشرها ، حالاً من العظام ، تقديره : وانظر إلى العظام محياة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالاً ، وإنما تقع حالاً : كيف ، وحدها نحو : كيف ضربت زيداً ؟ ولذلك تقول : قائماً أم قاعداً ؟ فتبدل منها الحال .
والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة في موضع البدل من العظام ، وذلك أن : انظر ، البصرية تتعدى بإلى ، ويجوز فيها التعليق ، فتقول : انظر كيف يصنع زيد ، قال تعالى :
{ انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض } فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول : بانظر ، لأن ما يتعدّى بحرف الجر ، إذا علق ، صار يتعدى لمفعول ، تقول : فكرت في أمر زيد ، ثم تقول : فكرت هل يجيء زيد ؟ فيكون : هل يجيء زيد ، في موضع نصب على المفعول بفكرت ، فكيف ، ننشزها بدل من العظام على الموضع ، لأن موضعه نصب ، وهو على حذف مضاف أي : فأنظر إلى حال العظام كيف ننشزها ، ونظير ذلك قول العرب : عرفت زيداً أبو من هو : على أحد الأوجه .
فالجملة من قولك : أبو من هو في موضع البدل من قوله زيداً مفعول عرفت ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : عرفت قصة زيد أبو من .
وليس الاستفهام في باب التعليق مراداً به معناه ، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلباً عليها أحكام اللفظ دون المعنى ، ونظير ذلك : أيّ ، في باب الاختصاص .
في نحو قولهم : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء ، وقد تقدّم من قولنا ، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام : قسم يكون فيه اللفظ مطابقاً للمعنى ، وهو أكثر كلام العرب .
وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق ، والواقع في التسوية .
وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو : أقائم الزيدان .
وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا الكبير المسمى ( بالتذكرة ) وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري ، عرف بابن دقيق العيد ؛ وسألني أن أكتب له فيها ، وكان سؤاله في قوله عليه السلام : « فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده »
{ ثم نكسوها لحماً } الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب ، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم .
كقوله : { فكسونا العظام لحماً } وهي استعارة في غاية الحسن ، إذ هي استعارة عين لعين ، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم .
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلئم وتتواصل ، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ : أن قول الله له كان بعد تمام بعثه ، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه .
والتعقيب بالفاء في قوله : فانظر إلى آخره ، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه ، وتقدّم ذكر شيء من هذا ، إلاَّ إن كان وضع : ننشرها ، مكان : أنشرتها ، و : نكسوها ، مكان : كسوتها ، فيحتمل .
وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق ، ولم ينسق نسق المفردات ، لأن كل واحد منها خارق عظيم ، ومعجز بالغ ، وبدأ أولاً بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة ، لأن ذلك أبلغ ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد ، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل ، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه .
كما قال صلى الله عليه وسلم في ضالة الإبل : « معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها » ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب ، وبالنظر إلى الحمار ، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته ، وقال تعالى : { ولنجعلك آية للناس } أي فعلنا ذلك : ولما كان قوله : { وانظر إلى حمارك } كالمجمل ، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار ، فجاء النظر الثالث توضيحاً للنظر الثاني ، من أي جهة ينظر إلى الحمار ، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئاً فشيئاً عند التركيب وكسوتها اللحم ، فليس نظراً مستقلاً ، بل هو من تمام النظر الثاني ، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله : { ولنجعلك آية للناس } .
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم ، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض ، وأن قوله : { ولنجعلك آية للناس } الخ وهو مقدّم في اللفظ ، مؤخر في الرتبة .
وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة .
{ فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } قرأ الجمهور : تبين ، مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن عباس : تبين له ، مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله .
وقرأ ابن السميفع : بين له ، بغير تاء مبنياً لما لم يسم فاعله ، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى ، وقدره الزمخشري : فلما تبين له ما أشكل عليه ، يعني أمر إحياء الموتى ، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى ؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمراً يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت .
وقال الطبري : لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل إعادته .
قال ابن عطية : وهذا خطأ ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه ، وفسر على القول الشاذ ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكاً في قدرة الله على الإحياء ، ولذلك ضرب له المثل في نفسه . انتهى .
وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه : وفاعل تبين مضمر تقديره : فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير ، قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً .
فجعل ذلك من باب الإعمال ، وهذا ليس من باب الإعمال ، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا ، وأدّى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبراً ، ويكون العامل الثاني معمولاً للأول ، وذلك نحو قولك : جاءني يضحك زيد .
فجعل في جاءني ضميراً أو في يضحك ، حتى لا يكون هذا الفعل فاصلاً ، ولا يرد على هذا جعلهم { آتوني أفرغ عليه قطراً } ولا { هاؤم اقرؤا كتابيه } ولا { تعالوا يستغفر لكم رسول الله } ولا { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه مّا من وجوه الاشتراك ، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل ، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو .
فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركاً بينه وبين : تبين ، الذي هو العامل الأول بحرف عطف ، ولا بغيره ، ولا هو معمول : لتبين ، بل هو معمول : لقال ، وقال جواب ، لما أن قلنا : إنها حرف وعاملة في ، لما أن قلنا إنها ظرف ، و : تبين ، على هذا القول في موضع خفض بالظرف ، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب : لو جاء قتلت زيداً ، ولا : متى جاء قتلت زيداً ، ولا : إذا جاء ضربت خالداً .
ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول : أكرمت أهنت زيداً .
وقد ناقض الزمخشري في قوله : فإنه قال : وفاعل تبين مضمر ، ثم قدره ، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم***
إلى آخره ، قال : فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، كما في قولهم : ضربني وضربت زيداً ، والحذف ينافي الإضمار للفاعل ، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده ، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلاً ، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر ، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر ، بل يحذف عنده الفاعل ، والسماع يرد عليه .
وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر : أي : بين له هو ، أي : كيفية الإحياء .
وقرأ الجمهور : قال ، مبنياً للفاعل ، على قراءة جمهور السبعة : أعلم ، مضارعاً ضميره يعود على المارّ ، وقال ذلك على سبيل الاعتبار ، كما أن الانسان إذا رأى شيئاً غريباً قال : لا إله إلا الله .
وقال أبو علي : معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته ، يعني يعلم عياناً ما كان يعلمه غيباً .
وأما على قراءة أبي رجاء ، وحمزة ، والكسائي إعلم ، فعل أمر من علم ، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أو على الملك القائل له عن الله ، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله : وانظر ، فقال له : إعلم ، ويؤيده قراءة عبد الله والأعمش : قيل ، اعلم ، فبنى : قيل ، لما لم يسم فاعله ، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة ، وقد تقدّم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعاً فأغنى عن إعادته هنا .
وجوّزوا أن يكون الفاعل ضمير المار ، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي ، كأنه قال لنفسه : إعلم ، ومنه : ودّع هريرة ، وألم تغتمض عيناك ، وتطاول ليلك ، وإنما يخاطب نفسه ، نزلها منزلة الأجنبي .
وروى الجعبي عن أبي بكر قال : أعلم ، أمراً من أعلم ، فالفاعل بقال يظهر أنه ضمير يعود على الله ، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله ، وعلى ما جوّزوا في : اعلم الأمر ، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار .