الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{أَوۡ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرۡيَةٖ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحۡيِۦ هَٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِاْئَةَ عَامٖ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ يَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ يَوۡمٖۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِاْئَةَ عَامٖ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ يَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَايَةٗ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَيۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمٗاۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (259)

قوله تعالى : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . . } [ البقرة :259 ] .

عطفت ( أوْ ) في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَاجَّ }[ البقرة :258 ] .

قال ابن عبَّاس وغيره : الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره : هو أَرْمِيَا ، قال ابن إِسحاق : أَرْمِيَا هو الخَضِرُ ، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه .

واختلف في القَرْيَةِ ، مَا هِيَ ؟ فقِيلَ : المُؤْتَفِكَةُ ، وقال زيْدُ بن أسلم : قريةُ ( الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم ، وهم أُلُوفٌ ) وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ ، وقتادة ، والضَّحَّاك ، والرَّبيع ، وعِكْرِمَة هي بَيْت المَقْدِسِ ، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ ، والعَرِيشُ : سقْف البيتِ ، قال السُّدِّيُّ : يقول : هي ساقطةٌ على سَقْفِها ، أي : سقطت السقْف ، ثم سقطت الحيطانُ عليها ، وقال غيره : معناه : خاوية من الناس ، وخاوية : معناه : خاليةٌ ، يقال : خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا ، ويقال : خويت ، قال الطبريُّ : والأول أفْصَحُ .

قال : ( ص ) { وَهِيَ خَاوِيَةٌ }[ البقرة :259 ] في موضع الحالِ من فَاعِلِ مَرَّ أو من قَرْيَةٍ ، و{ على عُرُوشِهَا } : قيل : على بابِهَا ، والمعنى : خاويةٌ من أهلها ، ثابتةٌ على عروشها ، والبُيُوت قائمةٌ ، والمَجْرور على هذا يتعلَّق بمحذوفٍ ، وهو ثابتةٌ ، وقيل : يتعلَّق بخَاوِيَة والمعنى : وقعتْ جُدُرَانُهَا على سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ ، انتهى . وقد زدنا هذا المعنى وضوحاً في سورة الكهف ، واللَّه الموفِّق بفضله .

وقوله : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } ظاهر اللفظ السؤَالُ عن إِحياءِ القَرْيَة بعمارةٍ أو سُكَّانٍ ، فكأنَّ هذا تلهُّفٌ من الواقِفِ المعتبر على مدينة أحبَّته ، ويحتمل أنْ يكونَ سؤاله إِنما كانَ عن إِحياء الموتى ، فضرب له المَثَل في نَفْسه ، وحكى الطبريُّ عن بعضهم ، أنَّ هذا القَوْلَ منه شك في قدرة اللَّه على الإِحياء .

قال : ( ع ) والصواب أن لاَّ يتأول في الآية شكٌّ ، وروي في قصص هذه الآية ، أنَّ بني إِسرائيل ، لَمَّا أحدثوا الأحدَاثَ ، بعث اللَّه عليهم بُخْتَنَصَّرَ ، فقتَلَهُم ، وجَلاَهم من بْيتِ المَقْدِسِ ، وخرَّبه ، فلَمَّا ذهب عنه ، جاء عُزَيْرٌ أَوْ إرمِيَّا ، فوقَف على المدينة معتبراً فقال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } ، فأماته اللَّه تعالى ، وكان معه حمارٌ ، قد رَبَطَهُ بحَبْلٍ جديدٍ ، وكان معه سَلَّة فيها تِينٌ هو طعامه ، وقيل : تِينٌ ، وعِنَبٌ ، وكانتْ معه رِكْوة من خَمْر ، وقيل : من عصيرٍ ، وقيل : قُلَّة من ماءٍ هي شرابُهُ ، وبقي ميتاً مائةَ عامٍ ، فروي أنَّه بَلِيَ ، وتفرَّقت عظامه ، هو وحمارُهُ ، وروي أنَّ الحمار بَلِيَ ، وتفرَّقت أوصاله ، دون عُزَيْرٍ .

وقوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثَهُ }[ البقرة :259 ] .

معناه : أحياه ، فسأله اللَّه تعالى بوسَاطَةِ المَلَكِ ، { كَمْ لَبِثْتَ } ، على جهة التقرير ، فقال : { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ، قال ابن جُرَيْج ، وقتادة ، والربيع : أماته اللَّه غدوة يَوْمٍ ، ثم بعثه قُرْبَ الغروبِ ، فظنَّ هو اليومَ واحداً ، فقال : { لَبِثْتُ يوماً } ثم رأى بَقِيَّةً مِن الشمْسِ ، فَخَشِيَ أنْ يكون كاذباً ، فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ، فقيل له : { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } .

وقوله تعالى : { فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ }[ البقرة :259 ] .

أي : لم يتغيَّر .

( ت ) قال البخاريُّ في «جامعه » : { يَتَسَنَّهْ } : يتغيَّر .

وأمَّا قوله تعالى : { وانظر إلى حِمَارِكَ } ، فقال وهْبُ بن منَبِّه ، وغيره : المعنى : انظر إِلى اتصال عظامِهِ ، وإِحيائه جُزْءاً جُزْءاً ، ويروى ، أنه أحياه اللَّهُ كذلك ، حتى صار عظَاماً ملتئِمَةً ، ثم كساه لَحْماً ، حتى كمل حماراً ، ثم جاء ملَكٌ ، فنفَخَ في أنْفِهِ الرُّوح ، فقام الحمارُ ينْهَقُ .

ورُوِيَ عن الضَّحَّاكِ ، ووهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيضاً ، أنهما قالا : بل قيلَ لَهُ : وانظر إلى حمارك قائماً في مربطه ، لم يُصِبْهُ شيء مِائَةَ سَنَةٍ ، قالا : وإِنما العظامُ التي نَظَر إِلَيْها عظامُ نَفْسِهِ ، وأعمى اللَّه العُيُون عنه ، وعن حِمَاره طُولَ هذه المُدَّة ، وكَثَّر أهْلُ القصص في صورة هذه النَّازلة تَكْثيراً اختصرته ، لعدم صحته .

وقوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ }[ البقرة :259 ] .

قال : ( ع ) وفي إِمَاتَتِهِ هذه المُدَّةَ ، ثم إِحيائِهِ أعظمُ آية ، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر .

( ت ) قال ابن هِشَامٍ : لا يصحُّ انتصاب مِائَة بأَمَاتَه ، لأن الإِماتة سلْبُ الحياة ، وهي لا تمتدُّ ، وإِنما الوجْهُ أنْ يضمَّن ( أَمَاتَهُ ) معنى أَلْبَثَهُ ، فكأنه قيلَ : فألبثه اللَّه بالمَوْت مِائَةَ عامٍ ، وحينئذٍ يتعلَّق به الظرف ، انتهى من " المُغْنِي " .

ومعنى { نُنْشِزُهَا } ، أي : نُحْيِيها ، وقرأ حمزةُ وغيره : { نُنْشِزُهَا } ومعناه : نرفعها ، أي : ارتفاعا قليلاً قليلاً ، فكأنه وَقَفَ على نباتِ العظامِ الرُّفَاتِ ، وقال النَّقَّاشُ : ( نُنْشِزُهَا ) معناه : نُنْبِتُهَا ، ومِنْ ذلك : نَشَزَ نَابُ البَعِيرِ .

وقوله تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ }[ البقرة :259 ] .

المعنى : قال هو { أَعلَمُ أنَّ اللَّه على كلِّ شيء قديرٌ } وهذا عنْدي لَيْسَ بإِقرار بما كان قَبْلُ يُنْكِرُهُ ، كما زعم الطبريُّ ، بل هو قولٌ بَعَثَهُ الاعتبارُ ، كما يقول الإِنسان المؤمن ، إِذا رأى شيئاً غريباً مِنْ قدرةِ اللَّهِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، ونحْو هذا .

وأما قراءة حمزةَ والكسائي قال : ( اعلم ) موصولةَ الألفِ ، ساكنةَ الميمِ ، فتحتمل وجهيْن :

أحدهما : قال المَلَكُ له : أعلم ، وقد قرأ ابن مسعود ، والأعمشُ : قِيلَ أعلم .

والوجه الثاني : أنْ يُنَزِّلَ نفسه منزلةَ المُخَاطَبِ الأجنبيِّ المُنْفَصِلِ ، أي قال لنفسه : أعلم وأمثلةُ هذا كثيرةٌ .