قوله عز وجل : { وقضى ربك } ، وأمر ربك ، قاله ابن عباس وقتادة والحسن . قال الربيع بن أنس : وأوجب ربك . قال مجاهد : وأوصى ربك . وحكى عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها ووصى ربك . وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافاً . { أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي : وأمر بالوالدين إحساناً براً بهما وعطفاً عليهما . { إما يبلغن عندك الكبر } ، قرأ حمزة و الكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله : { أحدهما أو كلاهما } ، كلام مستأنف ، كقوله تعالى { ثم عموا وصموا كثير منهم } [ المائدة – 71 ] وقوله { وأسروا النجوى الذين ظلموا } ، وقوله : { الذين ظلموا } ابتداء وقرأ الباقون { يبلغن } على التوحيد . { فلا تقل لهما أف } ، فيه ثلاث لغات ، قرأ ابن كثير و ابن عامر ، و يعقوب : بفتح الفاء ، وقرأ أبو جعفر ، ونافع ، وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ، ومعناها واحد وهي كلمة كراهية . قال أبو عبيدة : أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها . وقيل : الأف : ما يكون في المغابن من الوسخ ، والتف : ما يكون في الأصابع . وقيل : الأف : وسخ الأذن والتف وسخ الأظافر . وقيل : الأف : وسخ الظفر ، والتف : ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير . { ولا تنهرهما } ، ولا تزجرهما . { وقل لهما قولاً كريماً } ، حسناً جميلاً ليناً ، قال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ . وقال مجاهد : لا تسميهما ، ولا تكنهما ، وقل : يا أبتاه يا أماه . وقال مجاهد : في هذه الآية أيضاً : إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ، ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً .
( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . .
فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة( قضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .
فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .
والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :
( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .
بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر{[7517]} ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك }{[7518]} ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت{[7519]}
ويجوز{[7520]} أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفٌّ » بضم الفاء{[7521]} ، وقرأ ابن عباس «أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّاً » بالنصب والتنوين «وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفاً » بألف بعد الفتحة ، «وأفّْ » بسكون الفاء المشددة «وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه » .
قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر{[7522]} أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ{[7523]} الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما{[7524]} . وتقول { أف } .
قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي{[7525]} : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .