معاني القرآن للفراء - الفراء  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

وقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ23 } كقولك : أمر ربك وهي في قراءة عبد الله ( وَأَوْصى رَبُّك ) وقال ابن عباس هي ( وَوَصَّى ) التصقت واوها . والعرب تقول تركته يقضي أمور الناس أي يأمر فيها فينفُذ أمره .

وقوله { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا } معناه : وأوصى بالوالدين إحسَانا . والعرب تقول أُوصيك به خيراً ، وآمرك به خيراً . وكان معناه : آمرك أن تفعل به ثم تحذف ( أنْ ) فتوصل الخير بالوصيَّة وبالأمر ، قال الشاعر :

عجبتُ من دَهْماء إذ تشكُونا *** ومن أبى دَهماء إذ يوصينا

خيراً بها كأننا جافونا *** . . .

وقوله : { إِما يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } فإنه ثنّى لأن الوالدين قد ذُكِرا قبله فصار الفعل على عددهما ، ثم قال { أَحَدُهُما أَوْ كِلاَهُما } على الائتناف كقوله { ثمَّ عموا وصَمُّوا } ثم استأنف فقال : { كَثِيرٌ مِنْهُمْ } وكذلك قوله { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وأسَرُّوا النَّجْوى } ثم استأنف فقال : { الذين ظَلَمُوا } وقد قرأها ناس كثير { إِما يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ } جعلت { يَبْلُغَنّ } فعلا لأحدهما . فَكرَّرت ب فكرت عليه كلاهما .

وقوله { فَلاَ تَقُل لَّهُما 99ب أُفٍّ } قرأها عاصم بن أبى النَّجُود والأعمش ( أُفِّ ) خفضاً بغير نون . وقرأ العوامّ ( أُفٍّ ) فالذين خفضوا ونوَّنوا ذهبوا إلى أنها صوت لا يُعرف معناه إلاّ بالنطق به فخفضوه كما تُخفض الأصوات . من ذلك قول العرب : سمعت طاقٍ طاقٍ لصوت الضرب ، ويقولون : سَمعت تِغٍ تِغٍ لصوت الضحك . والذين لم ينوّنوا وخفضوا قالوا : أفّ على ثلاثة أحرف ، وأكثر الأصْوات إنما يكون على حَرفين مثل صَهْ ومثل يَغْ ومَهْ ، فذلك الذي يُخفض ويُنَوَّن فيه لأنه متحرك الأوَّل . ولسنا بمضطرين إلى حركة الثاني من الأدوات وأشباهِها فيُخْفَضَ فخفض بالنون : وشبّهت أفَّ بقولك مُدَّ ورُدَّ إذْ كانت على ثلاثة أحرف . ويدلّ على ذلك أنَّ بعض العرب قد رفعها فيقول أفُّ لك . ومثله قول الراجز :

سألتُها الوصلَ فقالت مِضَّ *** وحَرَّكت لي رأسها بالنَغْض

كقول القائل ( لا ) يقولها بأضراسه ، ويقال : ما علّمك أهلُك إلا ( مضِّ ومِضُّ ) وبعضهم : إلاّ مِضّا يوقع عليها الفعل . وقد قال بعض العرب : لا تقولن له أُفّا ولا تُفّا يُجعل كالاسم فيصيبه الخفض والرفع [ والنصب ] ثبت في ب والنصب بلا نون يجوز كما قالوا رُدَّ . والعرب تقول : جَعَل يتأفّف من ريح وجدها ، معناه يقول : أفِّ أفِّ . وقد قال الشاعر فيما نُوّن :

وقفنا فقلنا إِيهِ عن أمّ سالمٍ *** وَما بالُ تكليم الديار البلاقع

فحذف النون لأنها كالأداة ، إذا كانت على ثلاثة أحرف ، شُبِّهت بقولهم : جَيْرِ لا أفعل ذلك ، وقد قال الشاعر :

فقُلْن على الفِردوس أوَّلُ مشرب *** أَجَلْ جَيْرِ إِن كَانت أُبيحت دَعَاثرُهْ