الآية23 : وقوله تعالى : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } قال بعضهم : قضى : حكم ، وقال بعضهم : قضى ههنا : أمر ، أي أمر { ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وقال بعضهم : قضى ربك ، وصى ربك ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود وأبي رضي الله عنها أنهما كانا يقرآن : ووصى ربك ، وقال بعضهم : وعهد ربك .
وقال القتبي : { وقضى ربك } أي ختم ربك ، وهو من الفرض والإلزام ، أي فرض ربك ، وألزم { ألا تعبدوا إلا إياه } وكذلك حكم ، وهو أشبه . ألا ترى أنه قال في آية أخرى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ثم قال : { ومن يعص الله ورسوله } ؟ ( الأحزاب : 36 )دل قوله : { ومن يعص الله ورسوله } أن قوله : { إذا قضى الله ورسوله }معناه : أي فرض الله ورسوله وحكما أمرا .
ثم قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } فرض وحتم وحكم وأمر{ ألا تعبدوا إلا إياه } إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية لا تعبدوا دونه أحدا .
وقد أبان لنا أنه هو الإله والرب المستحق للعبادة والألوهية والربوبية لا الذين يعبدون من دونه من الأوثان والأصنام بوجوه ثلاثة :
أحدهما : عجز العقول وجهالتها عن درك كنهية العقول وماهيتها{[10762]} ؛ لأن العقول لا تعرف كنهية{[10763]} ، أنفسها ولا ماهيتها ، وتعرف محاسن الأشياء ومقابحها ، فقد عرفت الألوهية لله وحسن العبادة له وقبحها لغيره .
والثاني : ما يوجد في جميع الخلائق من آثار ألوهيته وربوبيته وجعل العبادة له شكرا له . وعلى ذلك جعل في كل جارحة من جوارح الإنسان عبادة شكرا له لما فيها من آثار ألوهيته .
والثالث : السمع ، أنبأنا أن لا معبود إلا الله ، ولا ألوهية لسواه دونه . فذلك معنى ( ما ){[10764]} فرض على خلقه ، وأمرهم { ألا تعبدوا إلا إياه } .
وتأويل حكم ربك { ألا تعبدوا إلا إياه } لما أنشأ في خلقه كل أحد آثار وحدانيته وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له . فذلك تأويل من قال : قضى ( أي ){[10765]}حكم .
وأما تأويل من قال : أي أمر ربك ، وكلف { ألا تعبدوا إلا إياه } فيكون فيه أمر بالعبادة له ، والنهي عن عبادة غيره ، كأنه قال : أمر ربك أن اعبدوه ونهاكم أن تعبدوا غيره .
ثم الفرق بين الطاعة والعبادة ، يجوز أن يطاع غيره ، ولا يجوز أن يعبد غيره ، لأن الطاعة ، هي الائتمار كقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }( النساء : 59 )أي ائتمروا .
وأما العبادة والاستسلام والخضوع له والشكر له ، ولا يجوز ذلك لغيره لسوى الله ، أو يكون في العباد معنى لا يدرك كمعنى الرحمان ، لا يدرك حين{[10766]}لم يجوز تسمية غيره به . فعلى ( ذلك ){[10767]} هذا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } كأنه قال : وفرض عليكم أيضا ، وحكم الإحسان للوالدين . ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه ، إنما هو فضل ومعروف يصنعه ( المرء ) {[10768]} إلى غيره ، هذا هو الإحسان في العرف واللغة .
لكن المراد من الأمر بالإحسان إلى الوالدين ، هو الشكر لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس ، وهو ما ذكر في آية أخرى { أن اشكر لي ولوالديك }( لقمان : 14 )لأن الشكر ، هي المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف .
فهو والله أعلم وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات ، وهو قوله : { ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } ( النعام : 151 ) وقوله {[10769]} في آية أخرى : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا }( النساء : 36 ) وغيرها من الآيات ، فالمراد منه ، والله أعلم ، الشكر لهما لما ذكر في آية أخرى : { أن اشكر لي ولوالديك }( لقمان : 14 )والشكر هو المكافأة .
أمره أن يكافئ لهما ، ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر عليه والعطف عليه والوقاية من كل سوء ومكروه في البطن وبعد ما خرج من البطن حتى كان يؤثرانه على نفسيهما {[10770]} في السرور ، يجعلان نفسيهما ( وقاية له من كل سوء ومحذور ، فأمر الولد أن يشكر لوالديه جزاء ومكافأة لما كان إليه منهما إليه مما ذكرنا .
( ذكر هذا في الحال التي عجزا هما عن القيام لأمر نفسيهما{[10771]} ) {[10772]} والحوائج لهما . وذلك ، والله أعلم ، لأنهما إذا كانا قادرين لحوائج نفسيهما{[10773]} ومنافعها يبران ولدهما ، ويحسنان إليه ، فيحمل برهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البر والإحسان إليهما على المجازاة .
وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضا يبعث ذلك على المكافأة ليدوم ذلك عليهم ، وألا ينقطع . لذلك ذكر ، والله أعلم ، الإحسان إلى الوالدين في ( الحال ){[10774]} التي هي حال ضعف وعجز حين{[10775]} قال : { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها ، وهو حال طفوليته وصغره ، أن كيف ربياه ، وبراه ، وعطفا عليه ، ولانا قولا حتى لم يستقذروا منه شيئا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض ، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث ، فأمره أن يعاملها إذا بلغا الحال التي كان هو عليها من الجهل ، والضعف والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو ، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ، ويبعد عنهما ، ألا يستقذر منهما ، و يبتعد عنهما كما لم يستقذرا هما منه { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } عند السؤال والحاجة إليه كما لم يفعلاهما له ، بل يلين وبذل ، كما لانا هما له ، وخضعا . وهو ما قال : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } الآية : ( النحل : 70 )وقال في آية أخرى : { خلقكم من ضعف }( الروم : 54 ) .
أخبر أنه يرد من القوة والعلم إلى حال التي كانوا عليها وحال الضعف والجهل حين{[10776]}قال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم } الآية( النحل : 78 )وقال : { خلقكم من ضعف } الآية( الروم : 54 ) فقال : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } .
وقال بعضهم : قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه { ولا تنهرهما } أي لا تعنفهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك .
وقال بعضهم : { أف } المراد منه هو{ أف } لا غيره { ولا تنهرهما } أي لا تعنفهما ، ولا تتخشن . لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها ، أي لا تقل لهما : أف على ما يستثقل الناس شيئا ، ويكرهونه في أول حال ، يرون شيئا مستثقلا مكروها ، فيقولون : أف ، أي لا تقل : أف لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر .
وعلى هذا المعنى/299-أ/قالوا في قوله : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } الآية ( النور : 30 )
قال بعضهم : { يغضوا من أبصرهم } ليحفظوا{[10777]} فروجهم ، لأن النظر بالبصر ( يحمل المرء ){[10778]} على الزنى في الفرج ، ومنه يكون بدء الفجور .
وقال بعضهم : { يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فرجهم } ذكر أول حال وآخرها ليمتنعوا عن كل ذلك .
فعلى ذلك {[10779]} قوله : { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } ذكر أول الحال وآخرها : ( فأولها : { أف } وآخرها : { ولا تنهرهما }{[10780]} ) أي لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال ( لئلا يحمل ) {[10781]} ذلك على العنف والانتهار .
فإن كان تأويل قوله : { أف } أف لا غير ففيه حجة لأبي حنيفة ، رحمه الله ، في قوله : إذا نفخ المصلي في موضع سجوده فهو{[10782]} كلام ، يقطع صلاته ( لأن الله تعالى ){[10783]} قال : { فلا تقل لهما أف } أي لا تتكلم به ، والله أعلم .
وقوله تعالى : وقل لهما قولا كريما }( بعدما ){[10784]}نهاه أن يقول لهما{ أف } ونهاه أن ينهرهما . فإذا امتنع عن الأف والنهر قال{[10785]} بعد ذلك قولا لينا لطيفا .
قال أبو عوسجة : يقال : نهرته ( وانتهرته نهرا ){[10786]} وهو الخشن من الكلام ، يشبه{[10787]}الوعيد . وقال أبو بكر الكيسائي : الكريم هو الذي يتولى على آخر نعمه ، ويهنئه بترك الأذى والمن كقوله : { لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }( البقرة : 264 ) وقال غيره في وصف السخي : هو{[10788]}الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه ( ويقطع طمعه ){[10789]}عما احتوى عليه غيره عند حاجاته إليه . ويشبه أن يكون الكريم قريبا منه .
فإن قال : إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البر لأولادهما والشفقة عليهم ، ولا كذلك الأولاد ، فكيف يشبه بر من كان مجبولا به مطبوعا عليه بر من لم يكن ذلك بطبعه ؟ قيل : لذلك هذا في الولد دون الوالدين ، وأمرهم بذلك ، لأن ما يفعل الوالدان من البر والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع ، والولد لا لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . ولهذا لم{[10790]} يجعل ، ولم يشرع قتل الوالد بولده ، إذ القصاص حياة بينهم ، وشرع قتل الولد بوالديه ؛ إذ الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل والولد ، وليس في الولد ذلك ، فجعل في قتل الولد والده في القصاص ، ولم يجعل في قتل والوالدين ولدهما . فعلى ذلك هذا في البر والإحسان .
فإن قيل : ما الحكمة في ما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن ( كقوله ){[10791]} { أن اشكر لي ولوالديك } ؟ ( لقمان : 14 )قيل : لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية إليه والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر .
وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة حين{[10792]} قال في المكاتب : إذا اشتري والده وأمه صار مكاتبا ، وإذا اشتري ( أخوه أو ذو ){[10793]} رحم محرم منه لم يصر مكاتبا لأن الأب والأم يصيران بحق الجزاء والشكر . فعليه ذلك . وأما الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف ، فملكه لا يحتمل ذلك .
والخطاب من الله ، وإن كان مع رسوله فالمراد منه غيره ، لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل ( فيه إليهم ){[10794]} وخاطبه بما خاطب . دل أنه أراد بالخطاب غيره ، كل ذلك{[10795]} محتمل ذلك وموهوب منه . وأمره أن يعاملها بالمعاملة التي ذكر ، والله أعلم .