فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ( 23 ) }

فرعي ، وقد ابتدأ بالأصلي في قوله لا تجعل ، ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكون من عمل بها ساعيا في الآخرة فقال :

{ وَقَضَى رَبُّكَ } أي أمر أمرا جزما وحكما قطعا وحتما مبرما وعن ابن عباس أنه قرأ ووصى ربك مكان وقضى ، وقال التزقت الواو والصاد وأنتم تقرأونها وقضى ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد ، وبه قرأ الضحاك أيضا أقول إنما يلزم هذا لو كان القضاء بمعنى الفراغ من الأمر ، وهو وإن كان أحد معاني مطلق القضاء كما في قوله : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } وقوله : { فإذا قضيتم مناسككم } وقوله : { فإذا قضيتم الصلاة } ولكنه ههنا بمعنى الأمر وهو أحد معاني القضاء والأمر لا يستلزم ذلك ، فإنه سبحانه قد أمر عباده بجميع ما أوجبه ومن جملة ذلك إفراده بالعبادة وتوحيده ، وذلك لا يستلزم أن لا يقع الشرك من المشركين .

ومنه معاني مطلق القضاء معان أخر غير هذين المعنيين كالقضاء بمعنى الخلق ومنه : { فقضاهن سبع سموات } وبمعنى الإرادة كقوله : { إذا قضى أمرا } وبمعنى العهد كقوله : { إذ قضينا إلى موسى الأمر } وقد روى عنه أيضا أنه قال قضى أمر ، وقيل أوجب ربك ؛ وعن مجاهد قال : عهد ربك .

قال الرازي : هذا القول – أي قول ابن عباس – بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ؛ ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين .

{ أن لا } أي بأن { لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } قاله السيوطي ، وقال في الجمل قوله هذا غير سديد حيث أثبتت النون بين الهمزة ولا النافية ، بقلم الحمرة فيقتضي أنها من رسم القرآن مع أنه ليس كذلك ، وقد نص في شرح الجزرية أن ما عدا المواضع العشرة يكتب موصولا أي لا تثبت فيه النون ، وقيل أن مفسرة ولا تعبدوا نهي وفيه وجوب عبادة الله والمنع من عبادة غيره ؛ وهذا هو الحق .

ثم أردفه بالأمر بين الوالدين فقال { وَبِالْوَالِدَيْنِ } أي وقضى بأن تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما { إِحْسَانًا } وتبروهما قيل وجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه إنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قرينا لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى ؛ وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترنا بشكره فقال : { أن اشكر لي ولوالديك } .

ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر لكونهما إلى البر من الولد أحوج من غيرهما فقال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } إن شرطية وما زائدة والفعل مبني على الفتح لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة { عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } معنى عندك أن يكونا في كنفك وكفالتك وتوحيد الضمير في عندك ولا تقل وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهي بما فيه النهي ومأمور بما فيه الأمر .

{ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } جواب الشرط قيل والتقييد بهذا الشرط خرج مخرج الغالب من أن الولد إنما يتهاون بوالديه عند الكبر وإلا فلا يختص بالكبيرين ، والمعنى لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد ، وليس المراد حالة الاجتماع فقط .

عن الحسين بن علي مرفوعا : لو علم الله شيئا من العقوق أدنى من أف لحرمه .

وقال مجاهد : لا تقل لهما أف لما تميط عنهما من الأذى الخلاء والبول كما كانا لا يقولانه فيما كانا يميطان عنك من الخلاء والبول . وفي أف أربعون لغة قاله السمين ثم قال وقد قرئ من هذه اللغات بسبع ثلاث في المتواتر وأربع في الشواذ وقال الفراء : تقول العرب فلا يتأفف من ريح وجدها أي يقول أف أف ، وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن والثف وسخ الأظفار ، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به ، وعن ابن الأعرابي أن الأف للضجر وقال القتيبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ؛ فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل أف . ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم ، وقال الزجاج معناه النتن . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف وسخ بين الأظفار والثف قلامتها .

والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال أو صوت ينبئ عن ذلك فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما وقيل أف مصدر بمعنى تبا وقبحا وخسرانا والأول أرجح ، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو مقرر في الأصول .

{ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي لا تضجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك ، والنهي والنهر والنهم أخوات بمعنى الزجر والغلظة ، يقال نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره قال الزجاج : معناه لا تكلمهما ضجرا صائحا في وجوههما .

{ وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } أي لينا لطيفا جميلا سهلا أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع حسن التأدب والحياء والاحتشام .

قال محمد بن زبير : يعني إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما . وقيل هو أن يقول يا أماه يا أبتاه ولا يدعوهما بأسمائهما ولا يكنيهما .