غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

22

ولما ذكر ما هو الركن الأعظم في الإيمان أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال :

{ وقضى ربك } أي أمر أمراً جزماً وحكم حكماً قطعاً { ألا تعبدوا } أي بأن لا تعبدوا ف " أن " ناصبة ويجوز أن تكون مفسرة ، والفعل النهي معناه أي لا يعبدوا . وقد روى الضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان الأصل في هذه الآية " ووصى ربك " وبه قرأ علي وعبد الله فالتصقت الواو بالصاد فقرىء : { وقضى ربك } ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط لأن خلاف قضاء الله ممتنع . وضعف هذا القول بأنه يوجب تجويز وقوع التحريف والتصحيف في القرآن . أمر بعبادة نفسه ثم أردفه بالأمر ببر الوالدين وتقدير الكلام بأن تحسنوا بالوالدين أو وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، ولا يجوز أن يتعلق الباء في { بالوالدين } بالإحسان على ما ذهب إليه الواحدي ، لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته وقد مر في أوائل البقرة تفسير قوله : { وبالوالدين إحساناً } وأنه لم يجعل الإحسان إليهما تالياً لعبادة الله . يحكى أن واحداً من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول : هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للفقر والعمى والزمانة . وقيل لأبي العلاء المعري : ماذا نكتب على قبرك ؟ قال : اكتبوا عليه :

هذا ما جناه أبي علي*** وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج والولد :

وتركت فيهم نعمة العدم التي*** سبقت وصدّت عن نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لعانوا شدة *** ترمى بهم في موبقات الآجل

وقيل للإسكندر : أستاذك أعظم منَّة عليك أم والدك ؟ فقال : الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعلمي حتى أرتعني في نور العلم ، فأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد . ومن هنا قيل : " خير الآباء من علمك " . وقال العقلاء : وهب أن الوالد في أول الأمر طلب لذة الوقاع إلا أن اهتمامه بإيصال الخيرات إلى الولد ودفع الآفات عنه من أول دخول الولد في الوجود إلى أوان كبره بل إلى آخر عمره لا ينكر ولا يكفر ، ولهذا نكر { إحساناً } أي أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً كاملاً جزاء على وفور إحسانهما إليك ، على أن البادىء بالبر لا يكافأ لأنه أسبق منه .

ثم فصل طرفاً من الإحسان المأمور به فقال : { إما يبلغن } هي " إن " الشرطية زيدت عليها " ما " الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت النون المشددة لزيادة التقرير والتأكيد كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة فليكن هذا الجزاء مرتباً عليه وإلا فالتقرير والتأكيد ليس يليق بالشرط الذي مبناه على تردد الحكم . وقال النحويون : إن الشرط أشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت فلهذا صح دخول النون المؤكدة فيه . من قرأ الفعل على التوحيد فقوله : { أحدهما أو كلاهما } فاعل له لكن الأول بالاستقلال والثاني بتبعية العطف ، ومن قرأ على التنبيه فأحدهما يدل من ألف الضمير الراجع إلى الوالدين ، وكلاهما عطف على البدل فهو بدل مثله . ولا يصح أن يكون توكيد للضمير معطوفاً على البدل لاستلزام العطف المشاركة دون المباينة . { وكلاهما } مفرد لفظاً مثنى معنى ، وألفه عن واو عند الكوفيين وأصله كل المفيد للإحاطة فخفف بحذف إحدى اللامين وزيد ألف التثنية ليعرف أن المراد الإحاطة في المثنى لا في الجمع . وضعف بأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال في الخفض والنصب " مررت بكلي الرجلين " بكسر الياء كقوله { طرفي النهار } [ هود : 114 ] { يا صاحبي السجن } [ يوسف : 41 ] قال في الكشاف : معنى { عندك } هو أن يكبرا ويعجزا وكانا كلاً على ولدهما لا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وكنفه . وفي { أف } لغات : ضم الهمزة مع الحركات في الفاء الثلاث بالتنوين وبدونه . وأف بكسرتين بلا تنوين . وأفى ممالاً كبشرى ، وأف كخذ ، وأفة منونة وغير ممنونة وقد تتبع المنونة تفة فيقال : أفة وتفة وهي من أسماء الأفعال . وفي تفسيرها وجوه : قال الفراء : تقول العرب فلان يتأفف من ريح وجدها أي يقول : أف أف . وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والتف وسخ الأظفار . يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به . وقيل : معنى " أف " القلة من الأفيف وهو الشيء القليل ، وتف اتباع له نحو شيطان ليطان وحيث بيث وخبيث نبيث . وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أن الأف الضجر . وقال القتيبي : أصله أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاص عند تلك النفخة هو القائل أف ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم ، قال الزجاج : معناه النتن وبه فسر مجاهد الآية أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تخر أو تبول . وفي رواية أخرى عن مجاهد : إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف أي لا تقل تضجرت أو أتضجر .

قال بعض الأصوليين : منع التأفيف يدل على المنع من سائر أنواع الأذية دلالة لفظية . ومعنى الآية لا تتعرض لهما بنوع من أنواع الإيذاء والإيحاش كما أن قولك لا يملك فلا نقيراً ولا قطميراً يدل في العرف على أنه لا يملك شيئاً أصلاً ، وقال الأكثرون منهم : إن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن صورة أخرى ، فإذا أردنا إلحاق المسكوت عنها بالمنصوص عليها فإما أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكثر القياسات ، وإما أن يتساويا كقوله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق نصيباً من عبد حرم عليه الباقي " فإن الحكم في الأمة والعبد يتساويان . وإما أن يكون الحكم في محل المسكوت أظهر وهو القياس الجلي ومثاله المنع من التأفيف فإنه مغاير للمنع من الضرب عقلاً ، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكاً آخر عدواً له فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته . فهذا معقول في الجملة إلا أن قرينة تعظيم الوالدين صيره من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى ، فدل على المنع من جميع أنواع الإيذاء .

ثم أكد هذا المعنى بقوله : { ولا تنهرهما } والنهر والنهي أخوان يقال : نهره وانتهره وإذا استقبله بكلام يزجره . { وقل لهما } بدل التأفيف والنهر { قولاً كريماً } جميلاً مشتملاً على حسن الأدب ورعاية دقائق المروة والحياء والاحتشام . وقال عمر بن الخطاب القول الكريم أن يقول له : " يا أبتاه " " يا أماه " دون أن يسميهما باسمهما . وقول إبراهيم لأبيه آزر بالضم على النداء ، تقديم لحق الله على حق الأبوين . قالوا : ولا بأس به في الغيبة كما قالت عائشة : نحلني أبو بكر كذا ، أو سئل سعيد بن المسيب عن القول الكريم فقال : هو قول العبد المذنب للسيد الفظ .

/خ40