فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

ثم لما ذكر ما هو الركن الأعظم وهو التوحيد ، أتبعه سائر الشعائر والشرائع فقال : { وقضى رَبُّكَ } أي : أمر أمراً جزماً ، وحكماً قطعاً ، وحتماً مبرماً { أَن لاَ تَعْبُدُوا } أي : بأن لا تعبدوا ، فتكون «أن » ناصبة ، ويجوز أن تكون مفسرة ، و " لا " نهي . وقرئ ( ووصى ربك ) أي : وصى عباده بعبادته وحده ، ثم أردفه بالأمر ببرّ الوالدين فقال : { وبالوالدين إحسانا } أي : وقضى بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو وأحسنوا بهما إحساناً ، ولا يجوز أن يتعلق { بالوالدين ب{ إحسانا } ، لأن المصدر لا يتقدّم عليه ما هو متعلق به . قيل : ووجه ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد عبادة الله سبحانه أنهما السبب الظاهر في وجود المتولد بينهما ، وفي جعل الإحسان إلى الأبوين قريناً لتوحيد الله وعبادته من الإعلان بتأكد حقهما والعناية بشأنهما ما لا يخفى ، وهكذا جعل سبحانه في آية أخرى شكرهما مقترناً بشكره فقال : { أَنِ اشكر لِي ولوالديك } [ لقمان : 14 ] . ثم خص سبحانه حالة الكبر بالذكر ، لكونها إلى البر من الولد أحوج من غيرها ، فقال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } : " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " الإبهامية لتأكيد معنى الشرط ، ثم أدخلت نون التوكيد في الفعل لزيادة التقرير ، كأنه قيل : إن هذا الشرط مما سيقع ألبتة عادة . قال النحويون : إن الشرط يشبه النهي من حيث الجزم وعدم الثبوت ، فلهذا صح دخول النون المؤكدة عليه . وقرأ حمزة والكسائي ( يبلغان ) . قال الفراء : ثنى لأن الوالدين قد ذكرا قبله ، فصار الفعل على عددهما ، ثم قال : { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } على الاستئناف ، وأما على قراءة { يبلغن } فأحدهما فاعل بالاستقلال . وقوله : { أَوْ كِلاَهُمَا } فاعل أيضاً ، لكن لا بالاستقلال ، بل بتبعية العطف ، والأولى أن يكون أحدهما على قراءة ( يبلغان ) بدل من الضمير الراجع إلى الوالدين في الفعل ، ويكون { كلاهما } عطفاً على البدل ، ولا يصحّ جعل { كلاهما } تأكيداً للضمير ، لاستلزام العطف المشاركة ، ومعنى { عندك } في كنفك وكفالتك ، وتوحيد الضمير في { عندك } و{ لا تقل } وما بعدهما للإشعار بأن كل فرد من الأفراد منهيّ بما فيه النهي ، ومأمور بما فيه الأمر ، ومعنى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ } : لا تقل لواحد منهما في حالتي الاجتماع والانفراد ، وليس المراد حالة الاجتماع فقط ؛ وفي { أف } لغات : ضم الهمزة مع الحركات الثلاث في الفاء ، وبالتنوين وعدمه ، وبكسر الهمز والفاء بلا تنوين ، وأفي ممالاً ، وأفه بالهاء . قال الفراء : تقول العرب : فلان يتأفف من ريح وجدها ، أي : يقول أف أف . وقال الأصمعي : الأف وسخ الأذن ، والثف : وسخ الأظفار ، يقال ذلك : عند استقذار الشيء ، ثم كثر حتى استعملوه في كل ما يتأذون به . وروى ثعلب عن ابن الأعرابيّ أن الأفف : الضجر ، وقال القتيبي : أصله : أنه إذا سقط عليه تراب ونحوه نفخ فيه ليزيله ، فالصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قول القائل : أفّ ، ثم توسعوا فذكروه عند كل مكروه يصل إليهم . وقال الزجاج : معناه النتن . وقال أبو عمرو بن العلاء : الأف : وسخ بين الأظفار ، والثف : قلامتها . والحاصل أنه اسم فعل ينبئ عن التضجر والاستثقال ، أو صوت ينبئ عن ذلك ، فنهى الولد عن أن يظهر منه ما يدل على التضجر من أبويه أو الاستثقال لهما ، وبهذا النهي يفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما بفحوى الخطاب أو بلحنه كما هو متقرر في الأصول . { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } النهر : الزجر والغلظة ، يقال : نهره وانتهره : إذا استقبله بكلام يزجره . قال الزجاج : معناه لا تكلمهما ضجراً صائحاً في وجوههما . { وَقُل لَّهُمَا } بدل التأفيف والنهر { قَوْلاً كَرِيمًا } أي : ليناً لطيفاً أحسن ما يمكن التعبير عنه من لطف القول وكرامته مع التأدب والحياء والاحتشام .

/خ24