مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

قوله تعالى { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } .

اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الأيمان ، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع :

النوع الأول : أن يكون الإنسان مشتغلا بعبادة الله تعالى ، وأن يكون محترزا عن عبادة غير الله تعالى ، وهذا هو المراد من قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } وفيه بحثان :

البحث الأول : القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ . والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال : إنه قضى عليه ، أما إذا أمره أمرا جزما وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع ، فههنا يقال : قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء وانقطاعه . وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرئ : { وقضى ربك } ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى الله أحد قط ، لأن خلاف قضاء الله ممتنع ، هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير ، وهو قراءة علي وعبد الله .

واعلم أن هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين .

البحث الثاني : قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة الله تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير الله تعالى وهذا هو الحق ، وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام ، ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة ، والقدرة والشهوة والعقل ، وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو الله تعالى لا غيره ، وإذا كان المنعم بجميع النعم هو الله لا غيره ، لا جرم كان المستحق للعبادة هو الله تعالى لا غيره ، فثبت بالدليل العقلي صحة قوله : { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } .