قوله تعالى : { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } ، قال مجاهد : سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول : أنا قتلت فلاناً ، ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ، ولكن الله قتلهم بنصرته إياكم ، وتقويته لكم . وقيل : لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة .
قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، قال أهل التفسير والمغازي :
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً ، ووردت عليهم روايا قريش ، وفيهم أسلم ، غلام أسود لبني الحجاج ، وأبو يسار ، غلام لبني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهما : أين قريش ؟ قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، والكثيب : العقنقل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير ، قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً عشرة ويوماً تسعة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم ما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه مكة قد ألقيت إليكم أفلاذ كبدها ، فلما أقبلت قريش ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، وهو الكثيب الذي جاؤوا منه إلى الوادي ، قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، فأتاه جبريل عليه السلام وقال له : خذ قبضة من تراب فارمهم بها ، فلما التقى الجمعان تناول كفا من حصىً عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق منهم مشرك إلا دخل في عينيه ، وفمه ، ومنخريه ، منها شيء . فانهزموا ، وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم . وقال قتادة ، وابن زيد : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاث حصيات ، فرمى بحصاة في ميمنة القوم ، وبحصاة في ميسرة القوم ، وبحصاة بين أظهرهم ، وقال : شاهت الوجوه فانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، إذ ليس في وسع أحد من البشر أن يرمي كفاً من الحصا إلى وجوه جيش فلا يبقى فيهم عين إلا ويصيبها منه شيء ، وقيل : معناه وما بلغت إذ رميت ولكن الله بلغ ، وقيل : وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت بالحصباء ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا .
قوله تعالى : { وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً } ، أي : ولينعم على المؤمنين منه نعمةً عظيمةً بالنصر والغنيمة .
ثم يمضي السياق بعد هذا التحذير من التولي يوم الزحف ؛ ليكشف لهم عن يد الله وهي تدير المعركة من ورائهم ؛ وتقتل لهم أعداءهم ، وترمي لهم وتصيب . . . وهم ينالون أجر البلاء لأن الله يريد أن يتفضل عليهم بحسن البلاء ، ليثيبهم عليه من فضله وهو الذي وهبهم إياه :
( فلم تقتلوهم ، ولكن الله قتلهم ، وما رميت - إذ رميت - ولكن الله رمى . وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا . إن الله سميع عليم ) . .
وتذهب الروايات المأثورة إلى تفسير الرمي هنا بأنه رمية الحصى التي حثاها رسول الله [ ص ] في وجوه الكفار ، وهو يقول : " شاهت الوجوه . شاهت الوجوه " فأصابت وجوه المشركين ممن كتب عليهم القتل في علم الله . .
ولكن دلالة الآية أعم . فهي تمثل تدبير الله للأمر كله من وراء الحركة الظاهرة للنبي [ ص ] والعصبة المسلمة معه . ولذلك تلاها قول الله تعالى :
( وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ) . .
أي ليرزقهم من عنده أن يبلوا البلاء الحسن الذي ينالون عليه الأجر ، بعد أن يكتب لهم به النصر . فهو الفضل المضاعف أولاً وأخيراً .
يسمع استغاثتكم ويعلم حالكم ؛ ويجعلكم ستارا لقدرته ، متى علم منكم الخلوص له ؛ ويعطيكم النصر والأجر . . كما أعطاكم هذا وذاك في بدر . .
هذه مخاطبة للمؤمنين أعلم الله بها أن القتلة من المؤمنين ليسوا هم مستبدين بالقتل ، لأن القتل بالإقدار عليه ، والخلق والاختراع في جميع حالات القاتل إنما هي لله تعالى ليس للقاتل فيها شيء ، وإنما يشاركه بتكسبه وقصده ، وهذه الألفاظ ترد على من يقول بأن أفعال العباد خلق لهم ، وسبب هذه الآية فيما روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم مما فعل ، فقال قتلت كذا وفعلت كذا فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك فنزلت الآية ، وقوله { وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى } يراد به ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله يومئذ ، وذلك أنه أخذ قبضات من حصى وتراب ، فرمى بها في وجوه القوم وتلقاهم ثلاث مرات فانهزموا عند آخر رمية ، ويروى أنه قال يوم بدر : شاهت الوجوه ، وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم حنين بلا خلاف ، وروي أن التراب الذي رمى به لم يبق كافر إلا دخل في عينيه منه شيء ، وروي أنه رمى بثلاثة أحجار فكانت الهزيمة مع الحجر الثالث .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ما قلناه في قوله { فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } وذلك منصوص في الطبري وغيره ، وهو خارج في كلام العرب على معنى وما رميت الرمي الكافي إذ رميت ، ونحوه قول العباس بن مرداس : [ المتقارب ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فلم أعط شيئاً ولم أمنعِ{[5267]}
أي لن أعط شيئاً مرضياً ويحتمل أن يريد ، وما رميت الرعب في قلوبهم إذ رميت حصياتك ، ولكن الله رماه وهذا أيضاً منصوص في المهدوي وغيره ، ويحتمل أن يريد وما أغنيت إذ رميت حصياتك ولكن الله رمى أي أعانك وأظفرك ، والعرب تقول في الدعاء : رمى الله لك ، أي أعانك وصنع لك .
وحكى هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز وقرأت فرقة «ولكنّ الله رمى » بتشديد النون ، وفرقة «ولكنْ اللهُ » بتخفيفها ورفع الهاء من «الله » { وليبلي } أي ليصيبهم ببلاء حسن ، فظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة والظفر والعزة ، وقيل أراد الشهادة لمن استشهد يوم بدر وهم أربعة عشر رجلاً ، منهم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ومهجع مولى عمر ، ومعاذ وعمرو ابنا عفراء ، وغيرهم ، { إن الله سميع } لاستغاثتكم ، { عليم } بوجه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو ، وحكى الطبري : أن المراد بقوله { وما رميت إذ رميت } رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة على أبيّ بن خلف يوم أحد{[5268]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف لأن الآية نزلت عقب بدر ، وعلى هذا القول تكون أجنبية مما قبلها وما بعدها وذلك بعيد ، وحكي أيضاً أن المراد السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر فصار في الهويّ حتى أصاب ابن أبي الحقيق فقتله وهو على فراشه{[5269]} ، وهذا فاسد ، وخيبر فتحها أبعد من أحد بكثير ، والصحيح في قتل ابن أبي الحقيق غير هذا ، فهذان القولان ضعيفان لما ذكرناه .