قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا } ، تذللا واستكانة ،
قوله تعالى : { وخفية } أي سرًا ، قال الحسن : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله سبحانه يقول { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وأن الله ذكر عبدا صالحا ورضي فعله فقال { إذ نادى ربه نداءً خفيًا } .
قوله تعالى : { إنه لا يحب المعتدين } قيل : المعتدين في الدعاء ، وقال أبو مجلز : هم الذين يسألون منازل الأنبياء عليهم السلام .
أخبرنا محمد بن عبد العزيز القاشاني ، أنبأنا القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، ثنا أبو داود السجستاني ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد يعني ابن سلمة ، أنبأنا سعيد الجريري ، عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : " اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها ، فقال : يا بني سل الله الجنة وتعوذ من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ) .
وقيل : أراد به الاعتداء بالجهر ، قال ابن جريج : من الاعتداء رفع الصوت ، والنداء بالدعاء ، والصياح . وروينا عن أبي موسى قال لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أشرف الناس على واد ، فرفعوا أصواتهم بالتكبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ، ولا غائباً ، إنكم تدعون سميعًا قريبًا ) . وقال عطية : هم الذين يدعون على المؤمنين فيما لا يحل ، فيقولون : اللهم أخزهم اللهم العنهم .
وعندما يصل السياق إلى هذا المقطع ، وقد ارتعش الوجدان البشري لمشاهد الكون الحية ، التي كان يمر عليها في بلادة وغفلة . وقد تجلى له خضوع هذه الخلائق الهائلة وعبوديتها لسلطان الخالق وأمره . . عندئذ يوجه البشرَ إلى ربهم - الذي لا رب غيره - ليدعوه في إنابة وخشوع ؛ وليلتزموا بربوبيته لهم ، فيلتزموا حدود عبوديتهم له ؛ لا يعتدون على سلطانه ؛ ولا يفسدون في الأرض بترك شرعه إلى هواهم ، بعد أن أصلحها الله بمنهجه :
( ادعوا ربكم تضرعاً وخفية ، إنه لا يحب المعتدين ، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها . وادعوه خوفاً وطمعاً ، إن رحمة الله قريب من المحسنين ) .
إنه التوجيه في أنسب حالة نفسية صالحة ، إلى الدعاء والإنابة . . تضرعاً وتذللاً ؛ وخفية لا صياحاً وتصدية ! فالتضرع الخفي أنسب وأليق بجلال الله وبقرب الصلة بين العبد ومولاه .
أخرج مسلم - بإسناده عن أبي موسى - قال : كنا مع رسول الله [ ص ] في سفر - وفي رواية غزاة - فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال رسول الله [ ص ] : " أيها الناس أربعوا [ أي ارفقوا وهونوا ] على أنفسكم . إنكم لستم تدعون أصم ولا غائباً . إنكم تدعون سميعاً قريباً . وهو معكم "
فهذا الحس الإيماني بجلال الله وقربه معاً ، هو الذي يؤكده المنهج القرآني هنا ويقرره في صورته الحركية الواقعية عند الدعاء . ذلك أن الذي يستشعر جلاله فعلاً يستحيي من الصياح في دعائه ؛ والذي يستشعر قرب الله حقاً لا يجد ما يدعو إلى هذا الصياح !
وفي ظل مشهد التضرع في الدعاء ، وهيئة الخشوع والانكسار فيه لله ، ينهى عن الاعتداء على سلطان الله ، فيما يدعونه لأنفسهم - في الجاهلية - من الحاكمية التي لا تكون إلا لله .
ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص . { إنه لا يحب المعتدين } المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره ، نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والصعود إلى السماء . وقيل هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم ، " سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وحسب المرء أن يقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ { إنه لا يحب المعتدين } .
استئناف جاء معترضاً بين ذكر دلائل وحدانية الله تعالى بذكر عظيم قدرته على تكوين أشياء لا يشاركه غيره في تكوينها . فالجملة معترضة بين جملة { يغشى الليل النهار } [ الأعراف : 54 ] وجملة : { وهو الذي يرسل الرياح } [ الأعراف : 57 ] جرى هذا الاعتراض على عادة القرآن في انتهاز فُرص تهنُّؤ القلوب للذّكرى . والخطاب ب { ادعوا } خاص بالمسلمين لأنّه تعليم لأدب دعاء الله تعالى وعبادته ، وليس المشركون بمتهيّئين لمثل هذا الخطاب ، وهو تقريب للؤمنين وإدناء لهم وتنبيه على رضى الله عنهم ومحبّته ، وشاهدُه قوله بعده : { إن رحمت الله قريب من المحسنين } [ الأعراف : 56 ] . والخطاب مُوَجَّه إلى المسلمين بقرينة السياق .
و ( الدّعاء ) حقيقته النّداء ، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال ، كما في الرّكوع والسّجود ، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن .
والظاهر أنّ المراد منه هنا الطّلب والتّوجه ، لأنّ المسلمين قد عبدوا الله وأفردوه بالعبادة ، وإنّما المهمّ إشعارهم بالقرب من رحمة ربّهم وإدناء مَقامهم منها .
وجيء لتعريف الرّب بطريق الإضافة دون ضمير الغائب ، مع وجود معاد قريب في قوله : { تبارك الله } [ الأعراف : 54 ] ودون ضمير المتكلّم ، لأنّ في لفظ الرّب إشعاراً بتقريب المؤمنين بصلة المربوبية ، وليتوسّل بإضافة الرّب إلى ضمير المخاطبين إلى تشريف المؤمنين وعناية الرّب بهم كقوله : { بل الله مولاكم } [ آل عمران : 150 ] .
والتّضرّع : إظهار التّذلل بهيئة خاصة ، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع ، لأنّه تذلّل جهري ، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام ( 63 ) : { تدعونه تضرعاً وخفية } بالجهر بالدّعاء ، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية ، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله { ادعوه خوفاً وطمعاً } [ الأعراف : 56 ] وتكون ، الواو للتقسيم بمنزلة ( أو ) وقد قالوا : إنّها فيه أجود من ( أوْ ) . ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل ، فيكون مصدراً بمعنى الحال ، أي متذلّلين ، أو مفعولاً مطلقاً ل { ادعوا } ، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه ، وجعلوا قوله : { وخفية } مأموراً به مقصوداً بذاته ، أي ادعوه مُخفين دعاءكم ، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه ، وهذا خطأ : فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة . وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال : « اللّهمّ اسْقِنا » وقال : « اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا » وقال : « اللّهمّ عليك بقريش » الحديث . وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها ، فالصّواب أنّ قوله : { تضرعاً } إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء ، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع . وقرأ الجمهور { وخفية } بضمّ الخاء وقرأه أبو بكر بكسر الخاء وتقدّم في الأنعام .
وجملة { إنه لا يحب المعتدين } واقعة موقع التّعليل للأمر بالّدعاء ، إشارة إلى أنّه أمر تكريم للمسلمين يتضمّن رضى الله عنهم ، ولكن سلك في التّعليل طريق إثبات الشّيء بإبطال ضدّه ، تنبيهاً على قصد الأمرين وإيجازاً في الكلام . ولكون الجملة واقعَة موقع التّعليل افتتحت ب ( إنّ ) المفيدة لمجرّد الاهتْمام ، بقرينة خلو المخاطبين عن التّردد في هذا الخبر ، ومن شأن ( إنّ ) إذا جاءت على هذا الوجه أن تفيد التّعليل والرّبط ، وتقوم مقام الفاء ، كما نبّه عليه الشّيخ عبد القاهر .
وإطلاق المحبّة وصفاً لله تعالى ، في هذه الآية ونحوها ، إطلاقٌ مجازي مراد بها لازم معنى المحبّة ، بناء على أنّ حقيقة المحبّة انفعال نفساني ، وعندي فيه احتمال ، فقالوا : أريد لازم المحبّة ، أي في المحبوب والمحِب ، فيلزمها اتّصاف المحبوب بما يرضي المحِب لتنشأ المحبّة التي أصلها الاستحسان ، ويلزمها رضى المحِب عن محبوبه وإيصال النّفع له . وهذان اللاّزِماننِ مُتَلازمان في أنفسهما . فإطلاق المحبّة وصفاً لله مجاز بهذا اللاّزم المركب .
والمراد ب { المعتدين : المشركون ، لأنّه يرادف الظّالمين .
والمعنى : ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين ، كقوله : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [ غافر : 60 ] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين ، قال تعالى : { وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال } [ الرعد : 14 ] على أحد تأويلين فيها . وحمل بعض المُفسّرين التّضرّع على الخضوع ، فجعلوا الآية مقصورة على طلب الدّعاء الخفي حتّى بَالغ بعضهم فجعل الجهر بالدّعاء منهياً عنه ، وتجاوز بعضهم فجعل قوله : { إنه لا يحب المعتدين } تأكيداً لمعنى الأمر بإخفاء الدّعاء ، وجعل الجهر بالدّعاء من الاعتداء والجاهرين به من المعتدين الذين لا يحبّهم الله . ونقل ذلك عن ابن جريج ، وأحسب أنّه نقلٌ عنه غير مضبوط العبارة ، كيف وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جهراً ودعا أصحابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم بين كيف يدعونه، فقال: {ادعوا ربكم تضرعا}، يعني مستكينين، {وخفية}، يعني في خفض وسكون، كقوله: {ولا تخافت بها} (الإسراء: 110) يعني تسر بها، فادعوه في حاجتكم ولا تدعوه فيما لا يحل لكم على مؤمن أو مؤمنة، تقول: اللهم اخزه والعنه، اللهم أهلكه، أو افعل به كذا وكذا، فذلك عدوان، {إنه} الله، {لا يحب المعتدين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ادعوا أيها الناس ربكم وحده، فأخلصوا له الدعاء دون ما تدعون من دونه من الآلهة والأصنام. "تَضَرّعا "يقول: تذللاً واستكانة لطاعته. "وَخُفْيَةً" يقول: بخشوع قلوبكم وصحة اليقين منكم بوحدانيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا مراءاة، وقلوبكم غير موقنة بوحدانيته وربوبيته، فعل أهل النفاق والخداع لله ولرسوله...
عن الحسن، قال: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر جاره، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوّار وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السرّ فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلاّ همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول: ادْعُوا رَبّكُمُ تَضَرّعا وَخُفْيَةً وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا، فرضي فعله فقال: إذْ نادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّا...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة، فأشرفوا على واد يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال: «أيّها النّاسُ ارْبَعُوا على أنْفُسِكُمْ، إنّكُمْ لا تَدْعُونَ أصَمّ وَلا غائِبا إنّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعا قَرِيبا مَعَكُمْ».
وأما قوله: "إنّهُ لا يُحِبّ المُعْتَدِينَ" فإن معناه: إن ربكم لا يحبّ من اعتدى فتجاوز حدّه الذي حدّه لعباده في دعائه ومسألته ربه، ورفعه صوته فوق الحدّ الذي حدّ لهم في دعائهم إياه ومسألتهم وفي غير ذلك من الأمور...
قال ابن جريج: إن من الدعاء اعتداء يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء، ويؤمر بالتضرّع والاستكانة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ادعوا ربكم} قال بعضهم: {ادعوا} أي اعبدوا ربكم، كقوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي} [غافر: 60] ذكر في الابتداء الدعاء، وفي آخره العبادة، فكان الأمر بالدعاء أمرا بالعبادة. وقال بعضهم: الدعاء ههنا هو الدعاء، وقد جاء أن (الدعاء مخّ العبادة) [الترمذي: 3371] [لأن العبادة] قد تكون بالتقليد، والدعاء لا يحتمل التقليد، ولكن إنما يكون عند الحاجة لمّا يرى المرء في نفسه من الحاجة والعجز عن القيام بذلك؛ فعند ذلك يفرغ إلى ربه، فهو مخ العبادة من هذا الوجه... {تضرّعا وخفية} إخلاصا، وقيل: {تضرّعا} ظاهرا {وخفية} سرا. وأصله أن اعبدوا ربكم في كل وقت وكل ساعة، أو ادعوا خاضعين مخلصين...
{إنه لا يحب المعتدين} قيل: المجاوزين الحد بالإشراك بالله، وقيل: لا يحب الاعتداء في الدعاء نحو أن يقول: اللهم اجعلني نبيا أو ملكا أو أنزلني في الجنة منزل كذا وموضع كذا. وروي عن عبد الله بن مغفل [أنه] سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك الفردوس، وأسألك كذا، فقال له عبد الله: سل الله الجنة، وتعوّذ به من النار فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {سيكون قوم يعتدون في الدعاء) [أبو داوود 1480]. ويحتمل الاعتداء في الدعاء أن يسأل ربه ما ليس هو بأهل له نحو أن يسأل كرامة الأخيار والرسل. وأصل الاعتداء هو المجاوزة عن الحد. وعن الحسن [أنه] قال: في قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرّعا وخفية} علّمكم كيف تدعون ربكم؟ وقال للعبد الصالح حين رضي دعاءه {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 3] وقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عمل البر كله نصف العبادة والدعاء نصف العبادة) [المطالب العالية 3329].
وأما التضرع فإنه قد قيل إنه المَيْلُ في الجهات، يقال ضَرَعَ الرجل يَضْرَعُ ضَرَعاً إذا مال بأصبعيه يميناً وشمالاً خوفاً وذلاّ، قال: ومنه ضَرْعُ الشاة لأن اللبن يميل إليه، والمضارعة: المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه كان يدعو ويشير بالسبابة". وقال ابن عباس: "لقد رُئي النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة رافعاً يديه يدعو حتى إنه ليُرَى ما تحت إبطيه". وقال أنس: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه". وفيما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من رَفْعِ اليدين في الدعاء والإشارة بالسّبابة دليل على صحة تأويل من تأوّل التضرُّعَ على تحويل الأصبع يميناً وشمالاً.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} فيه وجهان: أحدهما: في الرغبة والرهبة، قاله ابن عباس ...
ويحتمل أن التضرع بالبدن، والخفية إخلاص القلب...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وما أخلص عبدٌ في دعائه إلا رَوَّحَ -سبحانه- في الوقت قلبَه. ويقال علَّمهم آداب الدعاء حيث قال: {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وهذا أدب الدعاء؛ أن يَدْعُوا بوصف الافتقار والانكسار ونشر الاضطرار.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا}، تذللا واستكانة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}: قيل: هو الإسهاب في الدعاء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم:"سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللَّهمّ إني أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل" ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
.. وقوله: {تضرعاً} معناه بخشوع واستكانة، والتضرع لفظة تقتضي الجهر لأن التضرع إنما يكون بإشارات جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، {وخفية} يريد في النفس خاصة، وقد أثنى الله عز وجل على ذلك في قوله {إذ نادى ربه نداء خفياً}
.. وقوله: {إنه لا يحب المعتدين} يريد في الدعاء وإن كان اللفظ عاماً، فإلى هذا هي الإشارة، والاعتداء في الدعاء على وجوه، منها الجهر الكثير والصياح...ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال ونحو هذا من التشطط، ومنها أن يدعو طالباً معصية وغير ذلك، وفي هذه الأسئلة كفاية...
الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزا عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفا بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. وقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه، فثبت أن لفظ القرآن دليل عليه... ثم قال تعالى بعده: {إنه لا يحب المعتدين} والأظهر أن المراد أنه لا يحب المعتدين في ترك هذين الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء، فإن الله لا يحبه ومحبة الله تعالى عبارة عن الثواب، فكان المعنى أن من ترك في الدعاء التضرع والإخفاء، فإن الله لا يثيبه البتة، ولا يحسن إليه، ومن كان كذلك كان من أهل العقاب لا محالة، فظهر أن قوله تعالى: {إنه لا يحب المعتدين} كالتهديد الشديد على ترك التضرع والإخفاء في الدعاء.
رفع الصوت بالدعاء ليس من المحرمات بل غايته أن يقال الأولى تركه، وإذا لم يكن من المحرمات لم يدخل تحت هذا الوعيد.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ادعوا ربكم تضرعاً وخفية} الظاهر أنّ الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
هاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة؛ فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما وهما متلازمان. فإن دعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره، أو دفعه، وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا. والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا، وذلك كثير في القرآن. كقوله تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم} [يونس: 18]. فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر، القاصر والمتعدي. فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم، وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر، فهو يُدعَى للنفع ودفع الضر، ودعاء المسألة، ويدعي خوفا ورجاء، ودعاء العبادة. فعلم أن النوعين متلازمان: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة.
وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أحدها: أنه أعظم إيمانا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي. وليس كالذي قال: إن الله يسمع إن جهرنا، ولا يسمع إن أخفينا. ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم. ولله المثل الأعلى، فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به. ثالثها: أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده. فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل، قد انكسر قلبه، وذلت جوارحه، وخشع صوته، حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسرته وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوعه بالنطق. فقلبه سائل طالب مبتهل، ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت، وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا. ورابعها: أنه أبلغ في الإخلاص. وخامسها: أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته، فكلما خفض صوته كان أبلغ في حمده وتجريد همته وقصده للمدعو، سبحانه وتعالى. وسادسها: وهو من النكت السرية البديعة جدا -أنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه، وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسأله مسألة مناجاة للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا: أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم: 3] فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه، وأنه أقرب إليه من كل قريب، وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به، بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه ولله المثل الأعلى سبحانه، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث الصحيح. لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال: «اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وقال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] وقد جاء أن سبب نزولها: أن الصحابة قالوا: «يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عز وجل: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}. وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء، لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا، فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يسأل مسألة القريب المناجي، لا مسألة البعيد المنادي. وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص، ليس قربا عاما من كل أحد، فهو قريب من داعيه وقريب من عابده، و«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد». كما قال النبي صلى الله عليه وسلم راويا عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا»، فهذا قربه من عابده، وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}. وقوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب. وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر، وشأن آخر. على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا، لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب، وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية، أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح، وقابلهم من غَلُظَ حجابه، فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوق فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا. والمقصود هاهنا: الكلام علي هذه الآية. وسابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه، وهذا نظير من يقرأ ويكرر رافعا صوته، فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته. وثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات. فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره، فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة. وتاسعها: إن أعظم النعم هو الإقبال على الله، والتعبد له، والانقطاع إليه والتبتل إليه، ولكل نعمة حاسد على قدرها، دقت أو جلت، ولا نعمة أعظم من هذه النعمة. فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها، وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له، وقد قال يعقوب ليوسف – عليهما السلام – {لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين} [يوسف: 5]. عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه، فهو ذكر وزيادة، كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل الدعاء الحمد لله» فسمى «الحمد لله» دعاء، وهو ثناء محض؛ لأن الحمد يتضمن الحب والثناء. والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب، فالحامد طالب لمحبوبه، فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما. فتأمل هذا الموضع فإذا بأمليه لا تحتاج إلى ما قبله: إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال، فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض، وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب، فهو دعاء حقيقة، بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه. والمقصود: أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه. وقد قال تعالى: {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول} [الأعراف: 205]. فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه. قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح. وتأمل كيف قال في آية الذكر {واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة} [الأعراف: 205]. وفي آية الدعاء {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55] فذكر التضرع فيهما معا، وهو التذلل والتمسكن والانكسار، وهو روح الذكر والدعاء، وخص الدعاء بالخفية لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخيفة لحاجة الذاكر إلى الخوف، فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد، فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة... فقوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة، متضمن دعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه وإسراره.
وقوله تعالى: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ: فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات، وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله، مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب، أو يسأله أن يطلعه على غيبه، أو يسأله أن يجعله من المعصومين، أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء. فكل سؤال يناقض حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحبه رسله. وفسر الاعتداء أيضا: برفع الصوت أيضا في الدعاء. قال ابن جريح: من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء، والنداء في الدعاء والصياح. وبعد فالآية أعم من ذلك كله، وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء، دعاء كان أو غيره، كما قال: {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} [البقرة: 190]. وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان، وهم الذين يدعون معه غيره، فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا، فإن أعظم العدوان هو الشرك، وهو وضع العبادة في غير موضعها، فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله: {إنه لا يحب المعتدين}. ومن العدوان: أن يدعوه غير متضرع، بل دعاء مدل، كالمستغني بما عنده المدل على ربه به، وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته، فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد. ومن الاعتداء: أن تعبده بما لم يشرعه، وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه، فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة، وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب. وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين: أحدهما: محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له، وهو الدعاء تضرعا وخفية. والثاني: مكروه له مبغوض مسخوط، وهو الاعتداء، فأمر بما يحبه الله وندب إليه، وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق الزجر والتحذير، وهو أنه لا يحب فاعله، ومن لم يحبه الله فأي خير يناله؟ وفي قوله: {إنه لا يحب المعتدين} عقب قوله: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم. فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داع لله تضرعا وخفية، ومعتد بترك ذلك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَة} التضرع تفعل من الضراعة معناه تكلفها أو المبالغة فيها أو إظهارها، واختاره الراغب، وهي مصدر ضرع كخشع إذا ضعف وذل، وتلوى وتململ، ومأخذها من قولهم ضرع البهم إذ تناول ضرع أمه. وإن حاجة الصغير من الحيوان والإنسان إلى الرضاع من أمه لمن أشد مظاهر الحاجة والافتقار بشعور الوجدان إلى شيء واحد لا يتوجه إلى غيره معه، ولذلك خص استعمال التضرع في التنزيل بمواطن الشدة كما تقدم في الآيات 42 و43 و63 من سورة الأنعام ومثله في سورة المؤمنين {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون} (المؤمنون 76) وذلك أن دعاء الله عند الحاجة ولاسيما في حال الشدة هو مخ العبادة وروحها، وله مظهران: التضرع والابتهال، والخفية والإسرار.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
.. (الدّعاء) حقيقته النّداء، ويطلق أيضاً على النّداء لطلب مهمّ، واستعمل مجازاً في العبادة لاشتمالها على الدّعاء والطّلب بالقول أو بلسان الحال، كما في الرّكوع والسّجود، مع مقارنتها للأقوال وهو إطلاق كثير في القرآن ...
... والتّضرّع: إظهار التّذلل بهيئة خاصة، ويطلق التّضرع على الجهر بالدّعاء لأنّ الجهر من هيئة التّضرع، لأنّه تذلّل جهري، وقد فُسّر في هذه الآية وفي قوله في الأنعام (63): {تدعونه تضرعاً وخفية} بالجهر بالدّعاء، وهو الذي نختاره لأنّه أنسب بمقابلته بالخُفية، فيكون أسلوبه وفقا لأسلوب نظيره في قوله {ادعوه خوفاً وطمعاً} [الأعراف: 56] وتكون، الواو للتقسيم بمنزلة (أو) وقد قالوا: إنّها فيه أجود من (أوْ). ومن المفسّرين من أبقى التّضرع على حقيقته وهو التّذلل، فيكون مصدراً بمعنى الحال، أي متذلّلين، أو مفعولاً مطلقاً ل {ادعوا}، لأنّ التّذلّل بعض أحوال الدّعاء فكأنّه نوع منه، وجعلوا قوله: {وخفية} مأموراً به مقصوداً بذاته، أي ادعوه مُخفين دعاءكم، حتّى أوهم كلام بعضهم أنّ الإعلان بالدّعاء منهي عنه أو غير مثوب عليه، وهذا خطأ: فإنّ النّبيء صلى الله عليه وسلم دعا علَناً غير مرّة. وعلى المنبر بمسمع من النّاس وقال: « اللّهمّ اسْقِنا» وقال: « اللّهمّ حَوالَيْنا ولا علينا» وقال: « اللّهمّ عليك بقريش» الحديث. وما رويت أدعيته إلاّ لأنّه جهر بها يسمعها من رَوَاها، فالصّواب أنّ قوله: {تضرعاً} إذنٌ بالدّعاء بالجهر والإخفاء، وأمّا ما ورد من النّهي عن الجهر فإنّما هو عن الجهر الشّديد الخارج عن حدّ الخشوع ...
... والمراد ب {المعتدين: المشركون، لأنّه يرادف الظّالمين.
والمعنى: ادعوا ربّكم لأنّه يحبّكم ولا يحبّ المعتدين، كقوله: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} [غافر: 60] تعريض بالوعد بإجابة دعاء المؤمنين وأنّه لا يستجيب دعاءَ الكافرين، قال تعالى: {وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال} [الرعد: 14] على أحد تأويلين فيها...
اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه لا إجابتك إلى ما تدعوا إليه، إنك دعوت لتطلب الخير، فدع الحي بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير واسمع قول الله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)} (سورة الإسراء): إذن فحين يقول الحق: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لأننا سنواجه لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء، فبدلا من أن تظل مقهورا بصفة العجز عن الشيء اذكر أن لك ربا قويا مقتدرا، وساعة تذكر ذلك لن تأخذك الأسباب من حظيرة الإيمان. وقلنا من قبل: من له أب لا يحمل هما للحياة، فإذا كان الذي له أب لا يحمل هما لمطلوبات الحياة فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح سبحانه: إذا أعجزتكم الأسباب فاذكروا أن لكم ربا.