اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ ، والحكمة ، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع ، فقوله : " تَضَرُّعاً وخُفْيةً " نُصِبَ على الحال : أي : متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ . ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ ، أي : دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ .

وقرأ أبُو بَكْرٍ{[16290]} : " خِفْية " بكسر الخاء ، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام{[16291]} إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى أن " خِفْيَةً " بالكسر بمعنى الخَوْفِ ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها ، وذلك أن " خِفْية " ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، [ ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ ، وسُكِّن ما قبلها ، ] إلاَّ أن يقال : إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها .

وقرأ الأعمش{[16292]} " وخِيْفة {[16293]} " وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ .

قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } قرأ ابن أبي عَبْلَة{[16294]} " إنَّ اللَّه " أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ : التَّذَلُّلُ والاستكانة ، وبالخية : السِّرُّ .

قال الحسنُ : بين دعوة السِّرِّ ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً{[16295]} ، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ ، وما يسمع لهم صوت ، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أنَّ الله يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا ، ورضي فعله فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] .

وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ{[16296]} " ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ {[16297]} " وروى أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم ، فقال عليه الصَّلاة والسّلام : " ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ، ولا غَائِباً ، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ {[16298]} "

واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً ، أو علانيةً ؟ فقيل : الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، ولما تقدَّم ، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء .

وقال آخرون : العلانيَةُ أفضلُ ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به .

وقال آخرونَ : إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية .

فصل في بيان شبهة منكري الدعاء

من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء ، واحتج على صحَّة قوله بوجوه :

الأول : أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوُقُوع ؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ ، وإن كان معلومَ اللاوقوع ؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً{[16299]} .

الثاني : أنَّهُ تعالى : إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن ، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه ، فهو ممتنعٌ الوقوع ، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ ، وإن قلنا : إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنَّهُ عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله ، وفي صفاته ، وهو مُحالٌ .

وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير ، وهو محال .

الثالث : أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء ؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً ، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ ، أو لم يُقْدِم عليه .

الرابع : أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر ، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً ، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز .

الخامس : الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ ، وذلك سوءٌ أدبٍ ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له ، وذلك كُفْرٌ ، وأنَّ اللَّه تعالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ ، وذلك جهلٌ .

السادس : أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه ، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين ، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات .

السابع : روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - " مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ{[16300]} " وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ .

الثامن : أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد ، والعبدُ إذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة ، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ ، وفي تعظيم المولى ، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد ؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى - ، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - " ادْعُ ربَّكَ " ، فقال الخليل - عليه السَّلام - : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " .

والجوابُ : أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ ، فإنَّهُ يقال : إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات ، وإن كان شقِيّاً في علمه ؛ فلا فائدة في تلك العبادات ، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الإنسانُ على أكل الخُبْزِ ، وشرب الماء ؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ ؛ فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة ، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب ، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله ، وعرف من ربِّه ، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ ، ويعلم حاجته ، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة ، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ " {[16301]}

قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء ؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل : هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ ، والخير إلى العبد ، والمراد ب " المُعْتَدينَ " المجاوزين ما أمِرُوا به .

قال الكلبيُّ وابن جريج : من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ{[16302]} .

وقال أبُو مِجْلَزٍ : هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام{[16303]} - .

روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول : اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال : يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ ، وتعوَّذ به من النَّارِ ، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ{[16304]} .

وقال عَطِيَّةُ : هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ ، فيما لا يحل فيقولون : " اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم " .


[16290]:يعني أنه قرأ بها عاصم في رواية أبي بكر، وهذا مصطلح المصنف في تفسيره، فحيث ذكر قراءة "أبي بكر" فإنما يعني عاصما من روايته. ينظر: السبعة 283، والحجة 4/29، وإعراب القراءات 1/186، والعنوان 96، وإتحاف 2/51.
[16291]:ينظر تفسير الآية 63 من سورة الأنعام.
[16292]:ينظر: المحرر الوجيز 2/410، والبحر المحيط 4/313، والدر المصون 3/282.
[16293]:في أ: خفية.
[16294]:ينظر: المحرر الوجيز 2/410، البحر المحيط 4/313، الدر المصون 3/284.
[16295]:ذكره الرازي في تفسيره 14/107.
[16296]:ذكره الهندي في "كنز العمال" (2/75) رقم (3196) وعزاه لأبي الشيخ في الثواب.
[16297]:أخرجه أحمد 1/187 وعبد بن حميد 137 وأبو يعلى (2/81-82) رقم (137) وابن حبان (2323-موارد) عن سعد بن أبي وقاص.
[16298]:أخرجه البخاري 7/537 كتاب المغازي : باب غزوة خيبر (4205) وكتاب الدعوات 11/217 باب قول لا حول ولا قوة إلا بالله (6409) وأيضا كتاب الدعوات 11/191 باب الدعاء إذا علا عقبة 6384 وكتاب التوحيد 13/384 باب وكان الله سميعا بصيرا (7386) وأخرجه مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار 5/2076 باب استحباب خفض الصوت بالذكر (44-2704).
[16299]:ينظر: تفسير الرازي 14/104.
[16300]:أخرجه الترمذي (2/152) والدارمي 2/441 وابن نصر في قيام الليل ص 71 والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص 238 من طريق محمد بن الحسن الهمداني عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (2/82) عن أبيه: هذا حديث منكر ومحمد بن الحسن ليس بالقوي. وذكره الحافظ في "الفتح" (9/54) وضعفه.
[16301]:أخرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في السنن 5/456، كتاب الدعوات: باب ما جاء في فضل الدعاء الحديث (3371) وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة.
[16302]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/515) عن ابن جريج.
[16303]:انظر: المصدر السابق .
[16304]:أخرجه أبو داود 1480 وابن ماجه 3864 وابن أبي شيبة 10/288. وصححه الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" 1/144.