لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ ، والحكمة ، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع ، فقوله : " تَضَرُّعاً وخُفْيةً " نُصِبَ على الحال : أي : متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ . ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ ، أي : دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ .
وقرأ أبُو بَكْرٍ{[16290]} : " خِفْية " بكسر الخاء ، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام{[16291]} إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى أن " خِفْيَةً " بالكسر بمعنى الخَوْفِ ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها ، وذلك أن " خِفْية " ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها ، [ ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ ، وسُكِّن ما قبلها ، ] إلاَّ أن يقال : إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها .
وقرأ الأعمش{[16292]} " وخِيْفة {[16293]} " وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ .
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } قرأ ابن أبي عَبْلَة{[16294]} " إنَّ اللَّه " أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ : التَّذَلُّلُ والاستكانة ، وبالخية : السِّرُّ .
قال الحسنُ : بين دعوة السِّرِّ ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً{[16295]} ، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ ، وما يسمع لهم صوت ، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أنَّ الله يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا ، ورضي فعله فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] .
وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ{[16296]} " ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ {[16297]} " وروى أبو موسى الأشعريُّ - رضي الله عنه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم ، فقال عليه الصَّلاة والسّلام : " ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ ، ولا غَائِباً ، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ {[16298]} "
واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً ، أو علانيةً ؟ فقيل : الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، ولما تقدَّم ، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء .
وقال آخرون : العلانيَةُ أفضلُ ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به .
وقال آخرونَ : إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية .
من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء ، واحتج على صحَّة قوله بوجوه :
الأول : أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع ، كان واجب الوُقُوع ؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى ، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ ، وإن كان معلومَ اللاوقوع ؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً{[16299]} .
الثاني : أنَّهُ تعالى : إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن ، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه ، فهو ممتنعٌ الوقوع ، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ ، وإن قلنا : إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه ، ثم إنَّهُ عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله ، وفي صفاته ، وهو مُحالٌ .
وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير ، وهو محال .
الثالث : أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه ، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء ؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً ، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ ، أو لم يُقْدِم عليه .
الرابع : أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر ، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً ، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز .
الخامس : الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ ، وذلك سوءٌ أدبٍ ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له ، وذلك كُفْرٌ ، وأنَّ اللَّه تعالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ ، وذلك جهلٌ .
السادس : أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه ، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين ، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات .
السابع : روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - " مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ{[16300]} " وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ .
الثامن : أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد ، والعبدُ إذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة ، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ ، وفي تعظيم المولى ، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد ؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى - ، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - " ادْعُ ربَّكَ " ، فقال الخليل - عليه السَّلام - : " حسبي من سؤالي علمه بحالي " .
والجوابُ : أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ ، فإنَّهُ يقال : إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات ، وإن كان شقِيّاً في علمه ؛ فلا فائدة في تلك العبادات ، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الإنسانُ على أكل الخُبْزِ ، وشرب الماء ؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز ، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز ، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ ؛ فكذا فيما ذكروه ، بل نقول : المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة ، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب ، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله ، وعرف من ربِّه ، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ ، ويعلم حاجته ، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة ، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ : " الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ " {[16301]}
قوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء ؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل : هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ ، والخير إلى العبد ، والمراد ب " المُعْتَدينَ " المجاوزين ما أمِرُوا به .
قال الكلبيُّ وابن جريج : من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ{[16302]} .
وقال أبُو مِجْلَزٍ : هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام{[16303]} - .
روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول : اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال : يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ ، وتعوَّذ به من النَّارِ ، فإنِّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ{[16304]} .
وقال عَطِيَّةُ : هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ ، فيما لا يحل فيقولون : " اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم " .