محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة ، ليفردوه بالألوهية ، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين فقال سبحانه :

{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ( 55 ) } .

{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية } نصب على الحال ، أي : ذوي تضرع وخفية ، والتضرع ( تفعل ) من ( الضراعة ) وهو الذل . والخفية ( بضم الخاء وكسرها ) مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى ، أي : استتر وتوارى . وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة ، والرحمة الواسعة . وإذا حصل له ذلك ، فلا بد من صونه عن الرياء ، وذلك بالاختفاء ، وتوصلا للإخلاص .

فوائد :

في هذه الآية مشروعية الدعاء بشرطيه المذكورين .

قال السيوطي في ( الإكليل ) : ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء ، فيستحب . وقد أخرج البزار عن أنس قال : " رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا الابتهال . ثم خاضت الناقة ، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى " - انتهى- .

وفي ( الصحيحين ) {[4046]} عن أبي موسى الأشعري قال : " رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس  ! اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا . إن الذي تدعون سميع قريب . . . " الحديث .

/ وقال عبد الله بن المبرك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : " إن كان الرجل ، لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ؛ وإن كان الرجل ، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ؛ وإن كان الرجل ، ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعند الزور وما يشعرون به . ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا . ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم . وذلك أن الله تعالى يقول : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال : { إذ نادى ربه نداء خفيا }{[4047]} " .

وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والاستكانة .

وقال الناصر في ( الانتصاف ) : وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية ، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء ، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع ، لقليل الجدوى . فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه . وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء خصوصا في الجوامع ، حتى يعظم اللغط ويشتد ، وتستك المسامع وتستد ، ويهتز الداعي بالناس ، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين : رفع الصوت في الدعاء ، وفي المسجد ، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت ، ورعاية سمت الوقار ، وسلوك السنة الثابتة بالآثار . وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال ، ليست خارجة عن صميم الفؤاد ، لأنها لو كانت من أصل ، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء . وفي خفض الصوت به ، أوفر وأوفى وأزكى . فما أكثر التباس الباطل بالحق ، على عقول كثيرة من الخلق . اللهم  ! أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه-انتهى- .

/ وقد روى الحافظ أبو الشيخ في ( الثواب ) عن أنس مرفوعا : " دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية " .

وقوله تعالى : { إنه لا يحب المعتدين } أي : لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء ، ويدخل فيه الاعتداء بترك الأمرين المذكورين ، وهما التضرع والإخفاء دخولا أوليا .

قال السيوطي في ( الإكليل ) : في الآية كراهية الاعتداء في الدعاء . وفسره زيد بن أسلم بالجهر ، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء ، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر . أخرج ذلك ابن أبي حاتم . ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الاعتداء .

وقد روى الإمام أحمد{[4048]} وأبو داود " أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ، ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها . فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ( وفي لفظ : يعتدون في الطهور والدعاء ) ، وقرأ هذه الآية : { ادعوا ربكم } . . . الآية- وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل " .

وروى الإمام أحمد{[4049]} وأبو داود " أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول : اللهم  ! إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها . فقال : يا بني  ! سل الله الجنة ، وعذ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور " .


[4046]:- أخرجه البخاري في: 56- كتاب الجهاد، 131- باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، حديث رقم 1423 ونصه: عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. كنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا. إنه معكم. إنه سميع قريب. تبارك اسمه وتعالى جده". وأخرجه مسلم في: 48- كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، حديث 44 (طبعتنا).
[4047]:- [19/ مريم/ 3].
[4048]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 172 من الجزء الأول (طبعة الحلبي) والحديث رقم 1483 (طبعة المعارف). وأخرجه أبو داود في: 8- كتاب الوتر، 23- باب الدعاء، حديث رقم 1480.
[4049]:- أخرجه في المسند بالصفحة رقم 87 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي). وأخرجه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة، 45- باب الإسراف في الماء، حديث رقم 96.