الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ} (55)

قوله عز وجل : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين }[ الأعراف :55 ] .

هذا أمر بالدعاء ، وتعبد به ، ثم قرن سبحانه بالأَمْرِ به صفات تحسن معه . وقوله : { تَضَرُّعاً } معناه بخشوع ، واستكانة ، والتضرع لفظة تَقْتَضِي الجَهْرَ ، لأن التضرع إنما يكون بإشَارَاتِ جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب ، { وَخُفْيَةً } يريد في النفس خاصة ، وقد أثنى اللَّه سبحانه على ذلك في قوله سبحانه : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ ) والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أَجْراً من الجَهْرِ .

( ت ) : ونحو هذا لابن العربي لما تكلَّمَ على هذه الآية ، قال : الأَصْلُ في الأعمال الفرضية الجَهْرُ ، والأصل في الأعمال النَّفْلية السِّرُّ ، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرِّيَاءِ ، والتَّظَاهُر بذلك في الدنيا ، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال ، وقلوب الخَلْقِ جُبِلَتْ بالمَيْلِ إلى أهل الطاعة ، انتهى من «الأحكام » .

وقوله سبحانه : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } يريد في الدعاء ، وإن كان اللفظ عامّاً ، والاعتداء في الدعاء على وجوه منها : الجَهْرُ الكثير ، والصياح ، وفي «الصحيح » عنه صلى الله عليه وسلم : ( أيها النَّاسُ أرْبعُوا على أَنفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِباً ) . ومنها : أن يدعو في مُحَالٍ ، ونحو هذا من التشطُّط ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قالُّ : ( سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعَاءِ ، وحَسْبُ المرء أن يَقُولَ : اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّب إِلَيْهَا من قَوْلٍ ، أو عَمَلٍ ، وأَعُوذُ بك من النَّارِ ، وما قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلِ ، أو عَمَلٍ ) . وقال البخاري : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي : في الدعاء وغيره ، انتهى .

( ت ) : قال الخطابي : وليس معنى الاعْتِدَاءِ الإكثار ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدّعاءِ ) ، وقال : ( إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَكْثرْ ، فإنما هُوَ يَسْأَلُ رَبَّهُ ) انتهى .

وروى أبو داود في «سُنَنَهِ » عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل ، قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : ( سَيَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ قوم يَعْتَدُونَ في الطُّهْرِ وَالدُّعَاءِ ) انتهى .