معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

قوله تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين } قال قتادة : لو شاء الله لأنزل عليهم آية يذلون بها ، فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله وقال ابن جريج : معناه : لو شاء الله لأراهم أمراً من أمره ، لا يعمل أحد منهم بعده معصية . وقوله عز وجل : { خاضعين } ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ، وفيه أقاويل : أحدها : أراد أصحاب الأعناق ، فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم ، لأن الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، جعل الفعل أولاً للأعناق ، ثم جعل خاضعين للرجال . وقال الأخفش : رد الخضوع على المضمر الذي أضاف الأعناق إليه . وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر ، وهو قوله هم على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنث . وقيل : أراد فظلوا خاضعين فعبر بالعنق عن جميع البدن ، كقوله : { ذلك بما قدمت يداك }- و{ ألزمناه طائره في عنقه } . وقال مجاهد : أراد بالأعناق الرؤساء والكبراء ، أي : فظلت كبراؤهم خاضعين . وقيل : أراد بالأعناق الجماعات ، يقال : جاء القوم عنقاً عنقاً ، أي : جماعات وطوائف . وقيل :إنما قال خاضعين على وفاق رؤوس الآي ليكون على نسق واحد .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

فربه يرأف به ، وينهنهه عن هذا الهم القاتل ، ويهون عليه الأمر ، ويقول له : إن إيمانهم ليس مما كلفت ؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم ، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا ، ولا إنصرافا عن الإيمان . ويصور خضوعهم لهذه الأية صورة حسية : ( فظلت أعناقهم لها خاضعين )ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم عليها مقيمون !

ولكنه - سبحانه - لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة . لقد جعل آيتها القرآن . منهاج حياة كاملة . معجزا في كل ناحية :

معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ؛ كما هي الحال في أعمال البشر . إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات . بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال .

معجزا في بنائه الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة . كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ؛ وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها . . وكلها مشدودة إلى محور واحد ، وإلى عروة واحدة ، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة . ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة ، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان . هي التي أحاطت به هذه الإحاطة ، ونظمته هذا التنظيم .

معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة .

لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة - ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم - ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها ، وللأجيال كلها . وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان . فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب . لكل أمة ولكل جيل . والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعا يشهد . . فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم - لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم - ويلبي حاجاتهم كاملة ؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل . وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ؛ ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد . ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى . فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين :

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

{ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية } دلالة ملجئة إلى الإيمان أوبلية قاسرة عليه . { فظلت أعناقهم لها خاضعين } منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقحمت العناق لبيان موضع الخضوع وترك الخبر على أصله . وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم . وقيل المراد بها الرؤساء أو الجماعات من قولهم : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم ، وقرىء { خاضعة } و{ ظلت } عطف على { ننزل } عطف وأكن على فأصدق لأنه لو قيل أنزلنا بدله لصح .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

وقوله تعالى : { إن شاء } شرط وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا ، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب ، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت ، وقرأ «تنَزّل » بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن ، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي ، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل » بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول ، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس ، وكل هذين لم يأت به نبي ، ووجه ذلك ما ذكرناه ، وهو توجيه منصوص للعلماء . وقرأ طلحة «فتظل أعناقهم » وهو المراد في قراءة الجمهور وجعل الماضي موضع المستقبل إشارة إلى تقوية وقوع الفعل{[8901]} ، وقوله تعالى : { أعناقهم } يحتمل تأويلين أحدهما : وهو قول مجاهد وأبي زيد الأخفش ، أي يريد جماعاتهم ، يقال جاءني عنق من الناس أي جماعة ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]

إن العراق وأهله . . . عنق إليك فهيت هيتا{[8902]}

وعليه حمل قول أبي محجن :

واكتم السر فيه ضرب العنق{[8903]} . . . ولهذا قيل عتق رقبة ولم يقل عتق عنق فراراً من الاشتراك قاله الزهراوي ، فعلى هذا التأويل ليس في قوله { خاضعين } موضع قول ، والتأويل الآخر أن يريد الأعناق الجارحة المعلمة وذلك أن خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم . . . خضع الرقاب نواكس الأبصار{[8904]}

فعلى هذا التأويل يتكلم على قوله { خاضعين } كيف جمعه جمع من يعقل ، وذلك متخرج على نحوين من كلام العرب : أحدهما أن الإضافة إلى من يعقل أفادت حكم من يعقل كما تفيد الإضافة إلى المؤنث تأنيث علامة المذكر ، ومنه قول الأعشى :

«كما شرقت صدر القناة من الدم »{[8905]} . . . وهذا كثير ، والنحو الآخر أن الأعناق لما وصفت بفعل لا يكون إلا مقصوداً للبشر وهو الخضوع ، إذ هو فعل يتبع أمراً في النفس ، جمعها فيه جمع من يعقل وهذا نظير قوله تعالى : { أتينا طائعين }{[8906]} [ فصلت : 11 ] . وقوله : { رأيتهم لي ساجدين }{[8907]} [ يوسف : 4 ] . وقرأ ابن أبي عبلة «لها خاضعة »


[8901]:قال الفراء في (معاني القرآن): "صواب أن تعطف على مجزوم الجزاء بـ (فعل)؛ لأن الجزاء يصلح في موضع فعل يفعل، وفي موضع يفعل فعل، ألا ترى أنك تقول: إن زرتني زرتك وإن تزرني أزرك، والمعنى واحد؟ قال تبارك وتعالى: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات} ثم قال: {ويجعل لك قصورا}؛ فرد يفعل على فعل، وقال الشاعر- وهو قعنب بن أم صاحب: إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحا مني وما يسمعوا من صالح دفنوا فرد الجواب بفعل وقبله يفعل".
[8902]:جاء في (اللسان- عنق): "جاء القوم عنقا عنقا، أي طوائف، وقال الأزهري: إذا جاءوا فرقا كل جماعة منهم عنق، قال الشاعر يخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أبلغ أمير المؤمنيـ ـن أخا العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا أراد أنهم أقبلوا إليك بجماعتهم، وقيل: هم مائلون إليك ومنتظروك"
[8903]:هذا عجز بيت، وهو واحد من أبيات افتخر بها عبيد بن أبي محجن عند معاوية، وهي: لا تسأل الناس ما مالي وكثرته وسائل القوم: ما حزمي وما خلقي القوم أعلم أني من سراتهم إذا تطيش يد الرعد يده الفرق قد أركب الهول مسدولا عساكره وأكتم السر فيه ضربة العنق وابن عطية يستشهد بالبيت على أن العنق هنا من نفس المعنى الموجود في الشاهد السابق، والذي يبدو لي أن العنق هنا بمعنى الجارحة المعروفة.
[8904]:البيت للفرزدق وهو من قصيدة له يمدح فيها آل المهلب، واستشهد به في (اللسان- خضع) قال: "وقوم خضع الرقاب: جمع خضوع بمعنى خاضع، قال الفرزدق: وإذا الرجال... البيت". ومعنى "خضع الرقاب": مطأطؤاز الرؤوس ذلا، و "نواكس الأبصار" كناية عن الإجلال والتهيب، وهو مخالف للفصاحة عند البيانيين لأنه جمع ناكسة لا ناكس. قال في (اللسان-نكس): "نكس رأسه ‘ذا طأطأه من ذل، وجمع في الشعر على نواكس وهو شاذ، وأنشد الفرزدق: وإذا الرجال... البيت. قال سيبويه: إذا كان الفعل لغير الآدميين جمع على فواعل، لأنه لا يجوز فيه ما يجوز في الآدميين من الواو والنون في الاسم والفعل فضارع المؤنث". وقد ذكر ابن عطية تخريجين لهذا.
[8905]:هذا عجز البيت، وهو بتمامه: وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم وقد استشهد به صاحب (اللسان- شرق)، وهو في الديوان من قصيدة يهجو بها عمير بن عبد الله بن المنذر بن عبدان حين جمع بينه وبين جهنام الشاعر ليهاجيه، يقول: وحتى تشرق بما أذعت من القول، كما يشرق مقدم القناة بالدم، وصدر القناة هو أعلاها، والشاهد فيه أنه أنث الفعل (شرق) بالتاء مع أن الفاعل وهو (صدر) مذكر، ولكنه لما أضيف إلى القناة وهي مؤنثة لحقته تاء التأنيث بالفعل، فكأنه جعل الفعل للقناة لا لصدرها، وابن عطية يقيس على ذلك أنه يجوز أن تخلع على غير العاقل صفة العاقل وحكمه فتقول: أعناقهم خاضعين" بدلا من "خاضعة" وذلك لأن الأعناق أضيفت إلى ضمير العاقل. ومثل البيت قول الراجز: لما رأى متن السماء أبعدت فقد أنث الفعل (أبعدت) بالتاء مع أن الضمير يعود على المذكر وهو (متن)، ولكن لما أضيف المتن إلى مؤنث وهو السماء جاز أن ينظر الشاعر إلى المضاف إليه وأن يتناسى المضاف، وكأنه قال: لما رأى السماء أبعدت.
[8906]:من الآية 11 من سورة فصلت.
[8907]:من الآية 4 من سورة يوسف.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

استئناف بياني ناشىء عن قوله : { أن لا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالاً عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا ، كما قال موسى { ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] ، فأجيب بأن الله قادر على ذلك ، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى .

ومفعول { نشأ } محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة . والتقدير : إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها .

وجيء بحرف { إنْ } الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه .

ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره . فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديداً محسوساً بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب . وهذا من معنى قوله تعالى : { وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً في الأرض أو سُلّماً في السماء فتأتيهم بآية } [ الأنعام : 35 ] ، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن .

وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفاً لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه . فإن قلت : لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ ؟ قلت : كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم { أرني كيف تحيي الموتى } [ البقرة : 260 ] .

وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة { فظلت أعناقهم لها خاضعين } بفاء التعقيب .

وعطف { فظلت } وهو ماض على المضارع قوله : { ننزل } لأن المعطوف عليه جواب شرط ، فللمعطوف حكم جواب الشرط فاستوى فيه صيغة المضارع وصيغة الماضي لأن أداة الشرط تخلص الماضي للاستقبال ؛ ألا ترى أنه لو قيل : إن شئنا نزّلنا أو إن نَشأ نَزَّلنا ، لكان سواء إذ التحقيق أنه لا مانع من اختلاف فعلي الشرط والجزاء بالمضارَعيَّة والماضوية ، على أن المعطوفات يتّسع فيها ما لا يُتّسع في المعطوف عليها لقاعدة : أن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، كما في القاعدة الثامنة من الباب الثامن من « مغني اللبيب » ، غير أن هذا الاختلاف بين الفعلين لا يخلو من خصوصية في كلام البليغ وخاصة في الكلام المعجز ، وهي هنا أمران : التفنّن بين الصيغتين ، وتقريبُ زَمن مضي المعقب بالفاء من زمن حصول الجزاء بحيث يكون حصول خضوعهم للآية بمنزلة حصول تنزيلها فيتمّ ذلك سريعاً حتى يخيّل لهم من سُرعة حصوله أنه أمر مضى فلذلك قال : { فظلت } ولم يقل : فتظل .

وهذا قريب من استعمال الماضي في قوله تعالى : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } [ النحل : 1 ] وكلاهما للتهديد ، ونظيره لقصد التشويق : قد قامت الصلاة .

والخضوع : التطامن والتواضع . ويستعمل في الانقياد مجازاً لأن الانقياد من أسباب الخضوع . وإسناد الخضوع إلى الأعناق مجاز عقلي ، وفيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم .

والأعناق : جمع عُنُق بضمتين وقد تسكن النون وهو الرقبة ، وهو مؤنث . وقيل : المضموم النون مؤنث ، والساكن النون مذكر .

ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى : { وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن } [ طه : 108 ] أي أهل الأصوات بأصواتهم كقول الأعشى :

كذلكَ فافعَلْ ما حييتَ إذَا شتوا *** وأقْدم إذا ما أعينُ الناس تَفْرَق

فأسند الفَرق إلى العيون على سبيل المجاز العقلي لأن الأعين سبب الفرق عند رؤية الأشياء المخيفة . ومنه قوله تعالى : { سحَرُوا أعينَ الناس } [ الأعراف : 116 ] وإنما سحَروا الناس سحراً ناشئاً عن رؤية شعوذة السحر بأعينهم ، مع ما يزيد به قوله : « ظلت أعناقهم لها خاضعين » من الإشارة إلى تمثيل حالهم ، ومقتضى الظاهر فظلوا لها خاضعين بأعناقهم .

وفي إجراء ضمير العقلاء في قوله : { خاضعين } على الأعناق تجريد للمجاز العقلي في إسناد { خاضعين إلى أعناقهم } لأن مقتضى الجري على وتيرة المجاز أن يقال لها : خاضعة ، وذلك خضوع من توقع لحاق العذاب النازل . وعن مجاهد : أن الأعناق هنا جمع عُنُق بضمتين يطلق على سيد القوم ورئيسهم كما يطلق عليه رأس القوم وصدر القوم ، أي فظلت سادتهم ، يعني الذين أغرَوْهم بالكفر خاضعين ، فيكون الكلام تهديداً لزعمائهم الذين زيَّنوا لهم الاستمرار على الكفر ، وهو تفسير ضعيف . وعن ابن زيد والأخفش : الأعناق الجماعات واحدها عُنُق بضمتين جماعة الناس ، أي فظلّوا خاضعين جماعات جماعات ، وهذا أضعف من سابقه .

ومن بدع التفاسير وركيكها ما نسبه الثعلبي إلى ابن عباس أنه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوانٌ بعد عِزّة ، وهذا من تحريف كلم القرآن عن مواضعه ونحاشي ابن عباس رضي الله عنه أن يقوله وهو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يُعلّمه التأويل . وهذا من موضوعات دعاة المُسَوِّدة مثل أبي مسلم الخراساني وكم لهم في الموضوعات من اختلاق ، والقرآن أجلّ من أن يتعرض لهذه السفاسف .

وقرأ الجمهور : { ننزّل } بالتشديد في الزاي وفتح النون الثانية . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بضم النون الثانية وتخفيف الزاي .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{إن نشأ}، يعني: لو نشاء، {ننزل عليهم من السماء آية فظلت}، يعني: فمالت {أعناقهم لها} يعني: للآية، {خاضعين}، يعني: مقبلين إليها مؤمنين بالآية.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فَظَلّتْ أعْناقُهُمْ..."؛

فقال بعضهم: معناه: فظلّ القوم الذين أنزل عليهم من السماء آية خاضعة أعناقهم لها من الذَلّة... عن قَتادة، في قوله "خاضِعِينَ "قال: لو شاء الله لنزّل عليهم آية يذلون بها، فلا يَلْوِي أحد عنقه إلى معصية الله...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فظلت سادتهم وكبراؤهم للآية خاضعين، ويقول: الأعناق: هم الكبراء من الناس...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بما قال أهل التأويل في ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذليلة، للآية التي ينزلها الله عليهم من السماء...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

لما بين الله تعالى حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على إيمان قومه، واجتهاده بهم حتى كاد أن يقتل نفسه تأسفا على تركهم الايمان، أخبره بأنه قادر على أن ينزل عليهم آية ودلالة من السماء تظل اعناقهم لها خاضعة بأن تلجئهم إلى الايمان، لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف، لأنه تعالى لو فعل ذلك، لما استحقوا ثوابا ولا مدحا، لان الملجأ لا يستحق الثواب والمدح على فعله، لأنه بحكم المفعول فيه.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أخبر عن قدرته على تحصيل مرادِه من عباده، فهو قادرٌ على أن يُؤْمِنوا كَرْهاً

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {إن نشأ} شرط، وما في الشرط من الإبهام هو في هذه الآية في حيزنا، وأما الله تعالى فقد علم أنه لا ينزل عليهم آية اضطرار وإنما جعل الله تعالى آية الأنبياء والآيات الدالة عليه معرضة للنظر والفكر ليهتدي من سبق في علمه هداه ويضل من سبق ضلاله وليكون للنظر تكسب به يتعلق الثواب والعقاب، وآية الاضطرار تدفع جميع هذا أن لو كانت، وقرأ «تنَزّل» بفتح النون وشد الزاي أبو جعفر ونافع وشيبة والأعرج وعاصم والحسن، وقرأ أبو عمرو وأهل البصرة بسكون النون وتخفيف الزاي، وروى هارون عن أبي عمرو «يشأ ينزل» بالياء فيهما والخضوع للآية المنزلة كان يترتب بأحد وجهين إما بخوف هلاك في مخالفة الأمر المقترن بها كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما أن تكون من الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها وانقياد النفوس، وكل هذين لم يأت به نبي، ووجه ذلك ما ذكرناه، وهو توجيه منصوص للعلماء.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية "أي معجزة ظاهرة وقدرة باهرة فتصير معارفهم ضرورية، ولكن سبق القضاء بأن تكون المعارف نظرية.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان المحب ميالاً إلى ما يريد حبيبه، أعلمهم أن كل ما هم فيه بإرادته فقال: {إن نشأ} وعبر بالمضارع فيه وفي قوله: {ننزل} إعلاماً بدوام القدرة. ولما كان ذلك الإنزال من باب القسر، والجبروت والقهر، قال: {عليهم} وقال محققاً للمراد: {من السمآء} أي التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها فقال: {آية} أي قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه؛ وأشار إلى تحقق أثرها بالتعبير بالماضي في قوله عطفاً على {ننزل} لأنه في معنى {أنزلنا}: {فظلت} أي عقب الإنزال من غير مهلة {أعناقهم} التي هي موضع الصلابة، وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض {لها} أي للآية دائماً، ولكنه عبر بما يفهم النهار لأنه موضع القوة على جميع ما يراد من التقلب والحيل والمدافعة {خاضعين} جمعه كذلك لأن الفعل لأهلها ليدل على أن ذلهم لها يكون مع كونهم جميعاً، ولا يغني جمعهم وإن زاد شيئاً، والأصل: فظلوا، ولكنه ذكر الأعناق لأنها موضع الخضوع فإنه يظهر لينها بعد صلابتها، وانكسارها بعد شماختها، وللإشارة إلى أن الخضوع يكون بالطبع من غير تأمل لما أبهتهم وحيرهم من عظمة الآية، فكأن الفعل للأعناق لا لهم؛ والخضوع: التطأمن والسكون واللين ذلاً وانكساراً..

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فربه يرأف به، وينهنهه عن هذا الهم القاتل، ويهون عليه الأمر، ويقول له: إن إيمانهم ليس مما كلفت؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا يملكون معها جدالا، ولا انصرافا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية: (فظلت أعناقهم لها خاضعين) ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم، فهم عليها مقيمون! ولكنه -سبحانه- لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج حياة كاملة. معجزا في كل ناحية: معجزا في بنائه التعبيري وتنسيقه الفني، باستقامته على خصائص واحدة، في مستوى واحد، لا يختلف ولا يتفاوت، ولا تتخلف خصائصه؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد، المتغير الحالات. بينما تستقيم خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد، ومستوى واحد، ثابت لا يتخلف، يدل على مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال. معجزا في بنائه الفكري، وتناسق أجزائه وتكاملها، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل؛ وتحيط بالحياة البشرية، وتستوعبها، وتلبيها وتدفعها، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى؛ ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها.. وكلها مشدودة إلى محور واحد، وإلى عروة واحدة، في اتساق لا يمكن أن تفطن إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة، ونظمته هذا التنظيم. معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس، ولمس مفاتيحها، وفتح مغاليقها، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة. لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة -ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم- ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى، لا واقعا يشهد.. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم -لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم- ويلبي حاجاتهم كاملة؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل، وأفق أعلى، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته؛ ويبقى رصيده لا ينفد، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين:...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف بياني ناشئ عن قوله: {أن لا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] لأن التسلية على عدم إيمانهم تثير في النفس سؤالاً عن إمهالهم دون عقوبة ليؤمنوا، كما قال موسى {ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ربّنا ليَضِلّوا عن سَبيلك ربّنا اطمِسْ على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88]، فأجيب بأن الله قادر على ذلك، فهذا الاستئناف اعتراض بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى. ومفعول {نشأ} محذوف يدل عليه جواب الشرط على الطريقة الغالبة في حذف مفعول فعل المشيئة. والتقدير: إن نشأ تنزيلَ آية ملجئة ننزلها. وجيء بحرف {إنْ} الذي الغالب فيه أن يشعر بعدم الجزم بوقوع الشرط للإشعار بأن ذلك لا يشاؤه الله لحكمة اقتضت أن لا يشاءه. ومعنى انتفاء هذه المشيئة أن الحكمة الإلهية اقتضت أن يحصل الإيمان عن نظر واختيار لأن ذلك أجدى لانتشار سمعة الإسلام في مبدإ ظهوره. فالمراد بالآية العلامة التي تدل على تهديدهم بالإهلاك تهديداً محسوساً بأن تظهر لهم بوارق تنذر باقتراب عذاب. وهذا من معنى قوله تعالى: {وإن كان كَبُر عليك إعراضُهم فإن استطعتَ أن تَبْتَغِيَ نَفَقاً في الأرض أو سُلّماً في السماء فتأتيهم بآية} [الأنعام: 35]، وليس المراد آيات القرآن وذلك أنهم لم يقتنعوا بآيات القرآن. وجعل تنزيل الآية من السماء حينئذ أوضح وأشدّ تخويفاً لقلّة العهد بأمثالها ولتوقع كل من تحت السماء أن تصيبه. فإن قلت: لماذا لم يُرِهِمْ آية كما أُرِي بنو إسرائيل نَتْقَ الجبل فوقهم كأنه ظُلَّةٌ؟ قلت: كان بنو إسرائيل مؤمنين بموسى وما جاء به فلم يكن إظهار الآيات لهم لإلجائهم على الإيمان ولكنه كان لزيادة تثبيتهم كما قال إبراهيم {أرني كيف تحيي الموتى} [البقرة: 260]. وفرّع على تنزيل الآية ما هو في معنى الصفة لها وهو جملة {فظلت أعناقهم لها خاضعين} بفاء التعقيب... والخضوع: التطامن والتواضع، ويستعمل في الانقياد مجازاً لأن الانقياد من أسباب الخضوع، وإسناد الخضوع إلى الأعناق... فيه تمثيل لحال المنقادين الخائفين الأذلّة بحال الخاضعين الذين يتّقون أن تصيبهم قاصمة على رؤوسهم فهم يطأطئون رؤوسهم وينحنون اتقاء المصيبة النازلة بهم... ولما كانت الأعناق هي مظهر الخضوع أُسند الخضوع إليها وهو في الحقيقة مما يسند إلى أصحابها ومنه قوله تعالى: {وخَشَعَت الأصواتُ للرحمن} [طه: 108] أي أهل الأصوات بأصواتهم...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والآية هنا ليست آية إقناع للعقول، إنما آية ترغمهم وتخضع رقابهم، وتخضع البنية والقالب، وهذا ليس كلاما نظريا يقال للمكذبين، إنما حقائق وقعت بالفعل في بني إسرائيل، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة... 171} (الأعراف). فأخذوا ما آتيناهم بقوة، لماذا؟ بالآية التي أرغمتهم وأخضعت قوالبهم، لكن الحق- تبارك وتعالى- كما قلنا- لا يريد بالإيمان أن يخضع القوالب، إنما يريد أن يخضع القلوب باليقين والاتباع. فلو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، لا يختلف منهم أحد، بدليل أنه سبحانه خلق الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وبدليل أنه سبحانه بعث رسلا وعصمهم، ولم يجعل للشيطان سبيلا عليهم، وبدليل أن الشيطان بعد أن تعهد أن يغوي بني آدم ليكونوا معه سواء في المعصية قال له: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان... 42} (الحجر) والشيطان نفسه يقول: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين 82 إلا عبادك منهم المخلصين83} (ص) إذن: لو أراد سبحانه لجعل الناس جميعا مؤمنين وما عز عليه ذلك، لكنه أراد سبحانه أن يكون الإيمان باختيار المؤمن، فيأتي طواعية مختارا.