السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

ثم إنه تعالى أعلمه بأن كل ما هم فيه إنما هو بإرادته بقوله تعالى : { إن نشأ ننزل عليهم } وعبر بالمضارع فيهما إعلاماً بدوام القدرة . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون الثانية وإخفائها عند الزاي وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ، ثم قال تعالى محققاً للمراد { من السماء } أي : التي جعلنا فيها بروجاً للمنافع ، وأشار إلى تمام القدرة بتوحيدها بقوله تعالى : { آية } أي : قاهرة كما فعلنا ببعض من قبلهم بنتق الجبل ونحوه .

تنبيه : هنا همزتان مختلفتان ، أبدل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية المفتوحة بعد المكسورة ياء خالصة ، وحققها الباقون . ثم أشار تعالى إلى تحقق هذه الآية بالتعبير بالماضي في قوله تعالى عطفاً على ننزل لأنه في معنى أنزلنا { فظلت } أي : عقب الإنزال من غير مهلة { أعناقهم } أي : التي هي موضع الصلابة وعنها تنشأ حركات الكبر والإعراض { لها خاضعين } أي : منقادين .

تنبيه : خاضعين : خبر عن أعناقهم ، واستشكل جمعه جمع سلامة لأنه مختص بالعقلاء ؟ وأجيب عنه بأوجه : أحدها : أن المراد بالأعناق رؤساءهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما يقال لهم الرؤوس والنواصي والصدور ، قال القائل :

في محفل من رؤوس الناس مشهود *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ثانيها : أنه على حذف مضاف أي : فظل أصحاب الأعناق ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل الحذف المخبر عنه مراعاة للمحذوف .

ثالثها : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :

كما شرقت صدر القناة من الدم *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رابعها : قال الزمخشري : أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهبت أهل اليمامة كأن الأهل غير مذكور ، ونوزع في التنظير لأنّ أهل ليس مقحماً البتة لأنه المقصود بالحكم .

خامسها : أنها عوملت معاملة العقلاء ، كقوله تعالى : { ساجدين } ( يوسف ، 4 ) { وطائعين } ( فصلت ، 11 ) في يوسف والسجدة ، وقيل إنما قال تعالى : { خاضعين } لموافقة رؤوس الآي لتكون على نسق واحد .