اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

قوله : { إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ } . العامة على نون العظمة فيهما . وروي عن أبي عمرو بالياء فيهما ، أي : إِنْ يَشَأ الله يُنزِّل{[36842]} . و «إن » أصلها أن تدخل على المشكوك فيه{[36843]} أو المحقق المبهم زمانه ، والآية من هذا الثاني .

قوله : «فَظَلَّتْ » عطف على «نُنَزِّلْ » فهو في محل جزم{[36844]} . ويجوز أن يكون مستأنفاً غير معطوف على الجزاء{[36845]} . ويؤيد الأول قراءة طلحة : «فَتَظْلَل »{[36846]} بالمضارع مفكوكاً{[36847]} . قوله : «خَاضِعِينَ » . فيه وجهان :

أحدهما : أنه خبر عن «أَعْنَاقُهُمْ »{[36848]} . واستُشكِل جمعه جمع سلامة ؛ لأنه مختص بالعقلاء . وأجيب عنه بأوجه :

أحدها : أن المراد بالأعناقِ : الرؤساء كما قيل : لهم وجوه وصدور{[36849]} ، قال :

3894 - فِي مَحْفِلٍ من نواصِي الخَيْلِ مَشْهُودِ{[36850]} *** . . .

الثاني : أنه على حذف مضاف ، أي : فظل أصحاب الأعناق ، ثم حذف وبقي الخبر على ما كان عليه قبل حذف المُخْبَرِ عنه مراعاة للمحذوف{[36851]} ، وتقدم ذلك قريباً عند قراءة : { وَقَمَراً مُنِيراً } [ الفرقان : 61 ] .

الثالث : أنه لما أضيف إلى العقلاء اكتسب منهم هذا الحكم{[36852]} ، كما يكتسب التأنيث بالإضافة لمؤنث في قوله :

3895 - كَمَا شَرَقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ{[36853]} *** . . .

الرابع : أن «الأعناق » جمع «عُنُقٍ » من الناس ، وهم الجماعة{[36854]} ، فليس المراد الجارحة البتة ، ومنه قوله :

3896 - أَنَّ العِرَاقَ وأَهْلَهُ *** عُنُقٌ إلَيْكَ فَهَيْتَ هَيْتَا{[36855]}

وهذا قريب من معنى الأول ، إلا أن هذا القائل يطلق «الأعناق » على جماعة الناس مطلقاً ، رؤساء كانوا أو غيرهم .

الخامس : قال الزمخشري : أصل الكلام : فظلوا لها خاضعين ، فأقحمت «الأعناق » لبيان موضع الخضوع ، وترك الكلام على أصله كقولهم : ذهَبَتْ أهل [ اليمامة ، كأن الأهل غير مذكور{[36856]} . قال شهاب الدين : وفي التنظير بقوله : ذهبت أهل اليمامة ]{[36857]} نظر ، لأن ( أهل ) ليس مقحماً البتة ، لأنه المقصود بالحكم ، وأما التأنيث فلاكتسابه التأنيث{[36858]} ( بالإضافة ){[36859]} .

السادس : أنها عوملت معاملة العقلاء لمَّا أُسْنِدَ إليهم ما يكون فِعْل العقلاء{[36860]} ، كقوله : «سَاجِدِينَ »{[36861]} و «طَائِعِين »{[36862]} في يوسف وفصلت{[36863]} .

وقيل : إنما قال : «خاضِعِينَ » لموافقة رؤوس الآي .

والثاني : أنه منصوب على الحال من الضمير في «أَعْنَاقُهُم » قال الكسائي{[36864]} وضعفه أبو البقاء ، قال : لأن «خاضِعِين » يكون جارياً على غير فاعل «ظَلَّتْ » فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل ، فكان يجب أن يكون : خاضعين هم{[36865]} .

قال شهاب الدين : ولم يجر «خاضِعِين » في اللفظ والمعنى إلا على من هُوَ له ، وهو الضمير في «أَعْنَاقُهُمْ » ، والمسألة التي قالها : هي أن يجري الوصف على غير من هو له في اللفظ دون المعنى ، فكيف يلزم ما ألزمه به ، على أنه لو كان كذلك لم يلزم ما قاله ، لأن{[36866]} الكسائي والكوفيين{[36867]} لا يوجبون إبراز الضمير في هذه المسألة{[36868]} إذا أمن اللبس ، فهو ( لا ){[36869]} يلتزم ما ألزمه به ، ولو ضعفه بمجيء الحال من المضاف إليه لكان أقرب ، على أنه لا يضعف ؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه كقوله : { مَا فِي صُدُورِهِم مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً }{[36870]} .


[36842]:تفسير ابن عطية 11/788، البحر المحيط 7/5.
[36843]:(فيه): تكملة ليست في المخطوط.
[36844]:انظر الكشاف 3/107، البيان 2/211، التبيان 2/993.
[36845]:انظر التبيان 2/993.
[36846]:في النسختين: فتظال.
[36847]:البحر المحيط 7/5.
[36848]:انظر البيان 2/211.
[36849]:نقله الفراء عن مجاهد. معاني القرآن 2/277، البيان 2/211، التبيان 2/993.
[36850]:عجز بيت من بحر البسيط، قالته أم قبيس الضبية، وصدره: ومشهد قد كفيت الغائبين *** ... وهو في الكشاف 3/107، اللسان (نصا) برواية (الناس) مكان (الخيل) والبحر المحيط 7/6.
[36851]:انظر البيان 2/211، التبيان 2/993.
[36852]:قال الأخفش: ( أو يكون ذكره لإضافته على المذكر كما يؤنث لإضافته إلى المؤنث) معاني القرآن 2/644. وانظر البيان 2/211-212، التبيان 2/993.
[36853]:عجز بيت من بحر الطويل، قاله الأعشى، وصدره: وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** ... وتقدم تخريجه. والشاهد فيه قوله: شرقت فإنه أنثه مع أن الفاعل مذكر، لأنه مضاف إلى مؤنث وهو (القناة) فاكتسب التأنيث منه.
[36854]:أشار إليه الأخفش؛ فإنه قال: ( يزعمون أنها على الجماعات نحو: هذا عنق من الناس. يعنون الكثير) معاني القرآن 2/643-644، وانظر التبيان 2/993.
[36855]:البيت من بحر الكامل، أنشده الفراء لرجل يدعو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للذهاب إلى العراق. وهو في معاني القرآن 2/40، الخصائص 1/279، تفسير ابن عطية 11/89، ابن يعيش 4/32، اللسان (عنق، هيت)، البحر المحيط 7/5 عنق: بمعنى الجماعة، وهو موطن الشاهد، ورواية الفراء: سلم عليك فلا شاهد فيها. هيت: اسم فعل أمر بمعنى أسرع.
[36856]:الكشاف 3/107.
[36857]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[36858]:الدر المصون 5/150.
[36859]:زيادة يستقيم بها الكلام.
[36860]:انظر تفسير ابن عطية 11/91، البحر المحيط 7/6.
[36861]:من قوله تعالى: {رأيتهم لي ساجدين} [يوسف: 4].
[36862]:من قوله تعالى: {قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11].
[36863]:في النسختين: والسجدة.
[36864]:انظر التبيان 2/993.
[36865]:التبيان 2/993.
[36866]:في ب: إلا أن.
[36867]:في ب: والكوفيون.
[36868]:ذهب الكوفيون إلى أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له نحو قولك: هند زيد ضاربته هي لا يجب إبرازه. وذهب البصريون إلى أنه يجب إبرازه، واجمعوا على أن الضمير في اسم الفاعل إذا جرى على من هو له لا يجب إبرازه. انظر الإنصاف 1/57-58 المسألة (8).
[36869]:لا: زيادة يتم بها المعنى.
[36870]:[الحجر: 47]. الدر المصون 5/150. وهذا التنظير بناء منه على القول بأن "خاضعين" حال، وانظر البيان 2/211-212.