الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِن نَّشَأۡ نُنَزِّلۡ عَلَيۡهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ءَايَةٗ فَظَلَّتۡ أَعۡنَٰقُهُمۡ لَهَا خَٰضِعِينَ} (4)

{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ذليلين قال : لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلّون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عزَّ وجل ، ابن جريج : لو شاء لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال : بلغنا والله أعلم أنّها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت .

وبه عن أبي حمزة قال : حدّثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أنّ عبد الله بن عباس حدّثه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أُمّية قال : سيكون لنا عليهم الدولة فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة ، وهوان بعد عزة . وأمّا قوله سبحانه { خَاضِعِينَ } ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل : أحدها : فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأنّ الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعل الفعل أوّلاً للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال ، كقول الشاعر :

على قبضة مرجودة ظهر كفّه *** فلا المرء مستحي ولا هو طاعم

فأنّث فعل الظهر لأنّ الكفّ تجمع الظهر وتكفى منه كما أنّك مكتف بأن تقول : خضعت للأمر أن تقول : خضعتْ لك رقبتي ، ويقول العرب : كلّ ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأنّ قولك : نظرتْ إليك عيني ونظرتُ بمعنى واحد ، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد الى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز :

طول الليالي أسرعت في نقضي *** طوين طولي وطوين عرضي

فأخبر عن الليالي وترك الطول ، قال جرير :

أرى مرّ السنين أخذن منّي *** كما أخذ السرار من الهلال

وقال الفرزدق :

نرى أرماحهم متقلّديها *** إذا صدئ الحديد على الكماة

فلم يجعل الخبر للأرماح وردّه الى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام ، فكذلك رد الفعل الى الكناية في قوله أعناقهم ؛ لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدّى ما بقى من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفرّاء وأبو عبيد على هذا القول .

وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم ، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه الى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه الى مؤنّث ، كقول الأعشى :

وتشرق بالقول الذي قد أذعته *** كما شرقت صدر القناة من الدم

وقال العجاج : لما رأى متن السماء ابعدت .

وقيل : لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله

{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وقوله سبحانه

{ يأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] ومنه قول الشاعر :

تمززتها والديك يدعو صباحه *** إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبُوا

وقيل : إنما قال خاضعين فعبّر بالأعناق عن جميع الأبدان ، والعرب تعبّر ببعض الشئ عن كله كقوله

{ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] وقوله

{ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] ونحوهما .

قال مجاهد : أراد بالاعناق ههنا الرؤساء والكبراء ، وقيل : أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس ، يقال : جاء القوم عنقاً أي طوائف وعصباً كقول الشاعر :

انَّ العراق وأهله عنق *** إِليك فهيت هيتا

وقرأابن أبي عبلة : فظلّت أعناقهم لها خاضعة .