قوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله } ، هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه ، أعانوه أو لم يعينوه ، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء ، وكثرة الأعداء ، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد ، { إذ أخرجه الذين كفروا } ، من مكة حين مكروا به وأرادوا تبييته وهموا بقتله .
قوله تعالى : { ثاني اثنين } أي هو أحد الاثنين ، والاثنان : أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، { إذ هما في الغار } ، وهو نقب في جبل ثور بمكة ، { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } قال الشعبي : عاتب الله عز وجل أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر الصديق رضي الله عنه . أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان ، أنبأنا خيثمة بن سليمان ، ثنا أحمد بن عبد الله الدورقي ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن علي بن هاشم عن كثير النواء عن جميع بن عمير قال : أتيت ابن عمر رضي الله عنهما فسمعته يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : " أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض " . قال الحسين بن الفضل : من قال إن أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكاره نص القرآن . وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعا ، لا يكون كافرا . وقوله عز وجل : { لا تحزن إن الله معنا } لم يكن حزن أبي بكر جبنا منه ، وإنما كان إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال : إن أقتل فأنا رجل واحد وإن قتلت هلكت الأمة . وروي أنه حين انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار جعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالك يا أبا بكر ؟ قال : أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك ، فلما انتهيا إلى الغار قال مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار ، فدخل فاستبرأه ثم قال : انزل يا رسول الله ، فنزل فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر . أخبرنا أبو المظفر التميمي ، أنا محمد بن عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي النظر ، أنا خيثمة بن سليمان ، ثنا أبو قلابة الرقاشي ، ثنا حيان بن هلال ، ثنا همام بن يحي ، ثنا ثابت البناني ، ثنا أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثهم ، قال : نظرت إلى أقدام المشركين فوق رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : " لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة وعشيا ، فلما ابتلي المسلمون . خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة ، حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة ، فقال : أين تريد يا أبا بكر ؟ فقال أبو بكر : أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض ، فأعبد ربي ، قال ابن الدغنة : فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج . إنك تكسب المعدم ، وتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، فأنا لك جار ، إرجع ، واعبد ربك ببلدك فرجع ، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال : أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج ، أتخرجون رجلا يكسب المعدم . ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق ؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة : وقالوا لابن الدغنة : مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ، فليصل فيها ، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ، ولا يستعلن به ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر ، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر أن يبني مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ، ويقرأ القرآن فيقتصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه ، وينظرون إليه . وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن ، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين ، فأرسلوا إلى ابن الدغنة ، فقدم عليهم ، فقالوا : فابتنى مسجدا بفناء داره ، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه ، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا ، وأبناءنا ، فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل ، إن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك ، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ، ولسنا مقرين بذلك لأبي بكر الاستعلان . قالت عائشة رضي الله عنها فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال : قد علمت الذي عاقدت لك عليه ، فأما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلى ذمتي ، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له ، فقال أبو بكر : فإني أرد إليك جوارك ، وأرضي بجوار الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين : إني رأيت دار هجرتكم ، ذات نخل ، بين لابتين وهما الحرتان . فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة ، وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال أبو بكر : وهل ترجو ذلك بأبي أنت ؟ قال : نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه ، وعلف راحلتين -كانتا عنده- ورق السمر ، وهو الخبط ، أربعة أشهر " .
قال ابن شهاب . قال عروة : قالت عائشة رضي الله عنها : " فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة ، قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر ، قالت : فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن ، فأذن له ، فدخل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج من عندك ، فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله ، قال : فإني قد أذن لي في الخروج فقال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم قال أبو بكر : فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين ، قال رسول الله : بالثمن قالت عائشة رضي الله عنها : فجهزناهما أحث الجهاز ، وصنعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب ، فبذلك سميت ذات النطاقين ، قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور ، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن ، فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة ، كبائت فيها ، فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام ، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر ، منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل ، وهو لبن منحتهما ورضيفهما حتى ينعق بهما عامر بن فهيرة بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بني الديل ، وهو من بني عبد بن عدي هاديا خريتا ، - والخريت : الماهر بالهداية- قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي ، وهو على دين كفار قريش فأمناه ، فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم على طريق السواحل " .
قال ابن شهاب : وأخبرني عبد الرحمن بن مالك المديحي ، وهو ابن أخي سراقة بن مالك بن جعشم : أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم يقول : جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره ، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج ، أقبل رجل منهم ، حتى قام علينا ونحن جلوس ، فقال : يا سراقة إني قد رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه ، قال سراقة : فعرفت أنهم هم ، فقلت له : إنهم ليسوا بهم ، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا ، ثم لبثت في المجلس ساعة ، ثم قمت فدخلت البيت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة ، فتحبسها علي ، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت ، فخططت بزجه الأرض ، وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي ، فخررت عنها فقمت ، فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره ، فركبت فرسي وعصيت الأزلام ، تقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ، فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين ، فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت ، فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان ، فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره ، فناديتهم بالأمان ، فوقفوا ، فركبت فرسي حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية وأخبرتهم خبر ما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ولم يسألاني شيئا إلا أن قالا : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر بن فهيرة فكتب في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن شهاب : فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام ، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياب بياض ، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة ، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم ، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه ، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب ، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون ، فثار المسلمون إلى السلام ، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة ، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف ، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول ، فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا ، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه ، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة ، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى ، وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته ، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين ، وكان مربدا للتمر ، لسهيل وسهل ، غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بركت راحلته : هذا إن شاء الله المنزل . ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين ، فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله ، ثم بناه مسجدا ، وطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن :
هذا الحمال لا حمال خيبر *** هذا أبر ربنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة *** فارحم الأنصار والمهاجرة
فتمثل ببيت رجل من المسلمين لم يسم لي . قال ابن شهاب : ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات . قال الزهري : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الغار أرسل الله تعالى زوجا من حمام حتى باضا في أسفل النقب ، والعنكبوت حتى نسجت بيتا ، وفي القصة أنبت يمامة على فم الغار ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أعم أبصارهم عنا فجعل الطلب يضربون يمينا وشمالا حول الغار يقولون : لو دخلا هذا الغار لتكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت قوله عز وجل : { فأنزل الله سكينته عليه } ، قيل : على النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس : على أبي بكر رضي الله عنه ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كانت عليه السكينة من قبل ، { وأيده بجنود لم تروها } ، وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته . وقيل : ألقوا الرعب في قلوب الكفار حتى رجعوا . وقال مجاهد و الكلبي : أعانه بالملائكة يوم بدر ، أخبر أنه صرف عنه كيد الأعداء في الغار ثم أظهر نصره بالملائكة يوم بدر . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } ، وكلمتهم الشرك ، وهي السفلى إلى يوم القيامة ، { وكلمة الله هي العليا } ، إلى يوم القيامة . قال ابن عباس : هي قول لا إله إلا الله . وقيل كلمة الذين كفروا : ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه ، وكلمة الله : وعد الله أنه ناصره . وقرأ يعقوب : { وكلمة الله } بنصب التاء على أنها معطوفة على المفعول الأول لجعل ، وهو كلمة الذين كفروا ، والتقدير : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وجعل كلمة الله هي العليا ، فكلمة الله معطوفة على المفعول الأول ، والعليا معطوفة على المفعول الثاني ، وقرأ الباقون : وكلمة الله بالرفع على الاستئناف ، كأنه تم الكلام عند قوله { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } ثم ابتدأ فقال { وكلمة الله العليا } على الابتداء والخبر ، فكلمة الله مبتدأ ، والعليا خبره . قوله تعالى : { والله عزيز حكيم } .
ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :
( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .
وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } أي إن لم تنصروه فسينصره الله كما نصره . { إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين } ولم يكن معه إلا رجل واحد ، فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه ، أو إن لم تنصروه فقد أوجب الله له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره ، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن الله له بالخروج . وقرئ { ثاني اثنين } بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الإعراب ونصبه على الحال . { إذ هما في الغار } بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع ، والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا . { إذ يقول } بدل ثان أو ظرف لثاني . { لصاحبه } وهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه { لا تحزن إن الله معنا } بالعصمة والمعونة . روي ( أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ، فأعماهم الله عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه ) . وقيل لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه . { فأنزل الله سكينته } أمنته التي تسكن عندها القلوب . { عليه } على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا . { وأيّده بجنود لم تروها } يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله { نصره الله } . { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني الشرك أو دعوة الكفر . { وكلمة الله هي العليا } يعني التوحيد أو دعوة الإسلام ، والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى الله عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ له ، بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر . وقرأ يعقوب { وكلمة الله } بالنصب عطفا على كلمة { الذين } ، والرفع أبلغ لما فيه من الإشعار بأن { كلمة الله } عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل . { والله عزيز حكيم } في أمره وتدبيره .
هذا أيضاً شرط وجواب والجواب في الفاء من قوله { فقد } وفيما بعدها ، قال النقاش : هذه أول آية نزلت من سورة براءة ، ومعنى الآية أنكم إن تركتم نصره فالله متكفل به ، إذ فقد نصره في موضع القلة والانفراد وكثرة العدو ، فنصره إياه اليوم أحرى منه حينئذ ، وقوله { إذ أخرجه الذين كفروا } يريد فعلوا من الأفاعيل ما أدى إلى خروجه ، وأسند الإخراج إليهم إذ المقصود تذنيبهم ، ولما كان مقصد أبي سفيان بن الحارث الفخر في قوله : من طردت كل مطرد ، لم يقرره النبي صلى الله عليه وسلم ، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وفي صحبته أبو بكر ، واختصار القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمر الله عز وجل في الهجرة من مكة ، وكان أبو بكر حين ترك ذمة ابن الدغنة قد أراد الخروج من مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اصبر فلعل الله أن يسهل في الصحبة » ، فلما أذن الله لرسوله في الخروج تجهز من دار أبي بكر وخرجا فبقيا في الغار الذي في جبل ثور في غربي مكة ثلاث ليال ، وخرج المشركون في أثرهم حتى انتهو إلى الغار ، فطمس عليهم الأثر ، وقال أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم لقدمه لرآنا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .
ويروى أن العنكبوت نسجت على باب الغار ، ويروى أن الحمامة عششت عند باب الغار ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يجعل ثماماً{[5655]} في باب الغار فتخيله المشركون نابتاً وصرفهم الله عنه ، ووقع في الدلائل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه نبتت على باب الغار«راءة » أمرها الله بذلك في الحين ، قال الأصمعي : جمعها راء وهي نبات من السهل .
وروي أن أبا بكر لما دخل الغار خرق رداءه فسدَّ به كواء{[5656]} الغار لئلا يكون فيها حيوان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروي أنه بقيت واحدة فسدها برجله فوقى الله تعالى ، وكان يروح عليهما باللبن عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وقوله { ثاني اثنين } معناه أحد اثنين ، وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة فإذا اختلف اللفظ فقلت رابع ثلاثة فالمعنى صير الثلاثة بنفسه أربعة ، وقرأ جمهور الناس «ثانيَ اثنين » بنصب الياء من «ثاني » .
قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا وقرأت فرقة «ثاني اثنين » بسكون الياء من ثاني ، قال أبو الفتح : حكاها أبو عمرو بن العلاء ، ووجهه أنه سكن الياء تشبيهاً لها بالألف .
قال القاضي أبو محمد : فهذه كقراءة ما بقي من الربا{[5657]} وكقوله جرير : [ البسيط ]
هو الخليفةُ فارضوا ما رضي لكمُ*** ماضي العزيمة ما في حكمه جنف{[5658]}
و «صاحبه » أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وروي أن أبا بكر الصديق قال يوماً وهو على المنبر : أيكم يحفظ سورة التوبة ، فقال رجل أنا ، فقال اقرأ فقرأ ، فلما انتهى إلى قوله { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } بكى وقال أنا والله صاحبه ، وقال الليث : ما صحب الأنبياء مثل أبي بكر الصديق ، وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : { إلا تنصروه } .
قال القاضي أبو محمد : أقول بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك ولم يتخلف ، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط ، أما إن هذه الآية منوهة بأبي بكر حاكمة بقدمه وسابقته في الإسلام رضي الله عنه ، وقوله : { إن الله معنا } يريد به النصر والإنجاء واللطف{[5659]} ، وقوله تعالى : { فأنزل الله سكينته عليه } الآية ، قال حبيب بن أبي ثابت : الضمير في { عليه } عائد على أبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل ساكن النفس ثقة بالله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول من لم ير السكينة إلا سكون النفس والجأش ، وقال جمهور الناس : الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أقوى ، و «السكينة » عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم{[5660]} ، كقوله تعالى : { فيه سكينة من ربكم }{[5661]} ويحتمل أن يكون قوله { فأنزل الله سكينته } إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن تكون هذه الآية تختص بقصة الغار والنجاة إلى المدينة ، فعلى هذا تكون «الجنود » الملائكة النازلين ببدر وحنين ، ومن رأى أن الآية مختصة بتلك القصة قال «الجنود » ملائكة بشروه بالنجاة وبأن الكفار لا ينجح لهم سعي ، وفي مصحف حفصة «فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما » ، وقرأ مجاهد «وأأيده » بألفين ، والجمهور «وأيّده » بشد الياء ، وقوله : { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يريد بإدحارها ودحضها وإذلالها ، { وكلمة الله هي العليا } قيل : يريد لا إله الا الله ، وقيل :الشرع بأسره ، وقرأ جمهور الناس «وكلمةُ » بالرفع على الابتداء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ويعقوب «وكلمةَ » بالنصب على تقدير وجعل كلمة ، قال الأعمش : ورأيت في مصحف أنس بن مالك المنسوب إلى أبيّ بن كعب «وجعل كلمته هي العليا » .