قوله تعالى : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } ، قال ابن عباس : " قالت اليهود يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، ثم تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ؟ فأنزل الله هذه الآية " . وقيل : لما نزلت ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) ، قالت اليهود : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء ، فأنزل الله تعالى : ( قل لو كان البحر مداداً ) سمي المداد مدادا لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء . قال مجاهد : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب ، { لنفد البحر } أي : ماؤه { قبل أن تنفد } ، قرأ حمزة و الكسائي ينفد بالياء لتقدم الفعل ، والباقون بالتاء { كلمات ربي } أي علمه وحكمه { ولو جئنا بمثله مدداً } ، معناه : لو كان الخلائق يكتبون ، والبحر يمدهم لنفد البحر ولم تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثل ماء البحر في كثرته مدداً وزيادة ، نظيره قوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [ لقمان – 27 ] .
وأما الإيقاع الثاني فيصور العلم البشري المحدود بالقياس إلى العلم الإلهي الذي ليست له حدود ؛ ويقربه إلى تصور البشر القاصر بمثال محسوس على طريقة القرآن في التعبير بالتصوير .
( قل : لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ، ولو جئنا بمثله مددا ) .
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر . والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون ؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير !
فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه ؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد . ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله ، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد !
وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود ، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع .
والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة . ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج . . ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود ، فكيف بغير المحدود ?
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال .
والبحر في هذا المثال يمثل علم الإنسان الذي يظنه واسعا غزيرا . وهو - على سعته وغزارته - محدود . وكلمات الله تمثل العلم الإلهي الذي لا حدود له ، والذي لا يدرك البشر نهايته ؛ بل لا يستطيعون تلقيه وتسجيله . فضلا على محاكاته .
ولقد يدرك البشر الغرور بما يكشفونه من أسرار في أنفسهم وفي الآفاق ، فتأخذهم نشوة الظفر العلمي ، فيحسبون أنهم علموا كل شيء ، أو أنهم في الطريق !
ولكن المجهول يواجههم بآفاقه المترامية التي لا حد لها ، فإذا هم ما يزالون على خطوات من الشاطيء ، والخضم أمامهم أبعد من الأفق الذي تدركه أبصارهم !
إن ما يطيق الإنسان تلقيه وتسجيله من علم الله ضئيل قليل ، لأنه يمثل نسبة المحدود إلى غير المحدود .
فليعلم الإنسان ما يعلم ؛ وليكشف من أسرار هذا الوجود ما يكشف . . ولكن ليطامن من غروره العلمي ، فسيظل أقصى ما يبلغه علمه أن يكون البحر مدادا في يده . وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد ؛ ولو أمده الله ببحر مثله فسينتهي من بين يديه وكلمات الله ليست إلى نفاد . .
يقول تعالى : قل يا محمد : لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب{[18588]} به كلمات ربى وحكمه وآياته الدالة{[18589]} عليه ، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } أي : [ لفرغ البحر ]{[18590]} قبل أن يفرغ من كتابة ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي : بمثل البحر آخر ، ثم آخر ، وهلم جرا ، بحور تمده ويكتب بها ، لما نفدت كلمات الله ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] .
قال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور{[18591]} كلها ، وقد أنزل الله ذلك : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
يقول : لو كان البحر مدادا [ لكلمات الله ]{[18592]} ، والشجر كله أقلام{[18593]} ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول{[18594]} ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة{[18595]} ، كحبة من خردل في خلال الأرض [ كلها ]{[18596]} .
لما ابتدئت هذه السورة بالتنويه بشأن القرآن ثم أفيض فيها من أفانين الإرشاد والإنذار والوعد والوعيد ، وذكر فيها من أحسن القصص ما فيه عبرة وموعظة ، وما هو خفي من أحوال الأمم ، حُول الكلام إلى الإيذان بأن كل ذلك قليل من عظيم علم الله تعالى .
فهذا استئناف ابتدائي وهو انتقال إلى التنويه بعلم الله تعالى مفيضِ العلم على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لما سألوه عن أشياء يظنونها مفحمة للرسول وأن لا قبل له بعلمها علمه الله إياها ، وأخبر عنها أصدق خبر ، وبيّنها بأقصى ما تقبله أفهامهم وبما يقصر عنه علم الذين أغروا المشركين بالسؤال عنها ، وكان آخرها خبر ذي القرنين ، أتبع ذلك بما يعلم منه سعة علم الله تعالى وسعة ما يجري على وفق علمه من الوحي إذا أراد إبلاغ بعض ما في علمه إلى أحد من رسله . وفي هذا رد عجز السورة على صدرها .
وقيل : نزلت لأجل قول اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقول ، أي في سورة الإسراء { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } وقد أوتينا التّوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً . وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } في سورة الإسراء ( 85 ) .
وقال الترمذي عن ابن عباس : قال حيي بن أخطب اليهودي : في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ثم تقرأون : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } ، فنزل قوله تعالى : { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي . . . } الآية .
وكلمات الله : ما يدلّ على شيء مِن علمه مما يوحي إلى رسله أن يبلغوه ، فكل معلوم يمكن أن يخبر به . فإذا أخبر به صار كلمة ، ولذلك يطلق على المعلومات كلمات ، لأن الله أخبر بكثير منها ولو شاء لأخبر بغيره ، فإطلاق الكلمات عليها مجاز بعلاقة المآل . ونظيرها قوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [ لقمان : 27 ] . وفي هذا دليل لإثبات الكلام النفسي ولإثبات التعلّق الصلوحي لصفة العلم . وقل من يتنبه لهذا التعلّق .
ولما كان شأن ما يُخبِر الله به على لسان أحد رسله أن يكتَب حرصاً على بقائه في الأمة ، شبهت معلومات الله المخبَر بها والمطلق عليها كلمات بالمكتوبات ، ورُمز إلى المشبه به بما هو من لوازمه وهو المِداد الذي به الكتابة على طريقة المكنية ، وإثبات المداد تخييل كتخيُّل الأظفار للمنية . فيكون ما هنا مثل قوله تعالى : { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } فإن ذكر الأقلام إنما يناسب المداد بمعنى الحِبر .
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلمات الله بالسراج المضيء ، لأنه يهدي إلى المطلوب ، كما شبه نور الله وهديُه بالمصباح في قوله تعالى : { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } [ النور : 35 ] ويكون المداد تخييلاً بالزيت الذي يمد به السراج .
والمدَاد يطلق على الحِبر لأنه تُمَد به الدواة ، أي يمد به ما كان فيها من نوعه ، ويطلق المداد على الزيت الذي يمد به السراج وغلب إطلاقه على الحبر . وهو في هذه الآية يحتمل المعنيين فتتضمّن الآية مكنيتين على الاحتمالين .
واللام في قوله { لكلماته } لام العلّة ، أي لأجل كلمات ربي . والكلام يؤذن بمضاف محذوف ، تقديره : لكتابة كلمات ربي ، إذ المداد يراد للكتابة وليس البحر مما يكتب به ولكن الكلام بني على المفروض بواسطة ( لو ) .
والمداد : اسم لما يمد به الشيء ، أي يزاد به على ما لديه . ولم يقل مداداً ، إذ ليس المقصود تشبيهه بالحبر لحصول ذلك بالتشبيه الذي قبله وإنما قصد هنا أن مثله يمده .
والنفاد : الفناء والاضمحلال ، ونفاد البحر ممكن عقلاً .
وأما نفاد كلمات الله بمعنى تعلقات علمه فمستحيل ، فلا يفهم من تقييد نفاد كلمات الله بقيد الظرف وهو { قَبْلَ } إمكان نفاد كلمات الله ؛ ولكن لما بُني الكلام على الفرض والتقدير بما يدل عليه ( لو ) كان المعنى لو كان البحر مداداً لكلمات ربي وكانت كلمات ربي مما ينفد لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي .
وهذا الكلام كناية عن عدم تناهي معلومات الله تعالى التي منها تلك المسائل الثلاث التي سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقتضي قوله : { قبل أن تنفد كلمات ربي } إن لكلمات الله تعالى نفاداً كما علمته .
وجملة { ولو جئنا بمثله مدداً } في موضع الحال .
و { لو } وصلية ، وهي الدالة على حالة هي أجدر الأحوال بأن لا يتحقق معها مفاد الكلام السابق فيُنبّه السامع على أنها متحقق معها مُفاد الكلام السابق . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) ، وهذا مبالغة ثانية .
وانتصب مدداً } على التمييز المُفسر للإبهام الذي في لفظ { بِمِثله } ، أي مثل البحر في الإمداد .