فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال : { قُل لَوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّي } قال ابن الأنباري : سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء ، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج : مداد ، والمراد بالبحر هنا : الجنس . والمعنى : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات ، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً ، وقيل في بيان المعنى : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّي } وقوله : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله : { قل لو كان } . وفيه زيادة مبالغة وتأكيد ، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها أي : لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجيء بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً ، والمدد الزيادة ، وقيل : عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى ، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد ، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع ، قال الأعشى :

ووجه نقّي اللون صاف يزينه *** مع الجيد لبات لها ومعاصم

فعبّر باللبات عن اللبة . قال الجبائي : إن قوله { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّي } يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة ، وما ثبت عدمه امتنع قدمه . وأجيب بأن المراد : الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية ، وقيل في الجواب : إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدّل على نفاد الشيء الآخر ، ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر ، أما أنها متناهية ، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية . والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته ، وهي غير متناهية ، فالكلمات غير متناهية . وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ( ولو جئنا بمثله مداداً ) وهي كذلك في مصحف أبيّ ، وقرأ الباقون { مدداً } وقرأ حمزة والكسائي ( قبل أن ينفد ) بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية .

/خ110