جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ } أي : ماء البحر { مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ{[3035]} رَبِّي } : لكلمات علمه وحكمته { لنفذ البحر } أي : ماؤه { قَبْلَ أَن تَنفَدَ{[3036]} كَلِمَاتُ {[3037]}رَبِّي } فإن ماء البحر متناه وعلم الله غير متناه { ولو جِئْنَا بِمِثْلِهِ } : بمثل البحر الموجود { مَدَدًا } : زيادة معونة ؛ لأن المجموع أيضا متناه نزلت حين قالت اليهود : إنا قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، ثم تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أو لما نزلت : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " قالت اليهود أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت { قل لو كان البحر {[3038]} " الآية


[3035]:قوله تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي" الآية. فيه أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء و كما شاء و أن كلماته لا نهاية لها وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله سبحانه وتعالى متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة وكثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية، وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير البائي، وطائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم فكلامهم لابد أن يقوم بأنفسهم و هو يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كما لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته، أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟!! وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته بل كلامه مخلوق منفصل عنه، والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة ولا يكون بمشيئته، والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مبتدعة مبنية على أصل واحد، وهو قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل، والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع، وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، والصواب في هذا الباب و غيره مذهب سلف الأمة وأئمتها أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته وأن كلماته لا نهاية لها وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى وإنما ناداه حيه أتى لم يناده قبل ذلك وإن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة كذا قاله شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله /12.
[3036]:قوله: قبل أن تنفذ هو من باب إرخاء العنان وفهم العامة وإلا فالأصل أن يقال لنفذ البحر ولم تنفذ كلمات ربي /12 وجيز.
[3037]:والسلف يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء، وكما شاء و قد قال تعالى "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" فكلمات الله تعالى لا نهاية لها وهذا تسلسل جائز في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم لا نفاذ له فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية /12 شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام قدس الله روحه العزيز.
[3038]:أخرجه أحمد والترمذي (3349 ـ أحوزي)، وصححه والنسائي وابن حبان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في دلائلها وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعا. وقال الحافظ في "الفتح"، (8/253): رجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر عن ابن عباس نحوه. وكذا صححه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على المسند (2309)، والذي في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن اليهود لما سألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الروح أمسك فلم يرد عليهم شيئا. قال عبد الله: فعلمت أنه يوحى إليه. فقمت مقامي. فلما نزل الوحي قال: {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} قال الحافظ في الموضع سالف الذكر محاولا الجمع بين هذا وحديث ابن عباس: "ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح".