اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادٗا لِّكَلِمَٰتِ رَبِّي لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَٰتُ رَبِّي وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدٗا} (109)

قوله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } الآية .

لما ذكر في هذه السورة أنواع الدَّلائل والبيِّنات ، وشرح فيها أقاصيص الأوَّلين ، نبَّه على كمال حال القرآن ، فقال : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } .

قال ابن عباس{[21366]} : قالت اليهود : يا محمد ، تزعمُ أنّك قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] .

ثم تقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] .

فأنزل الله هذه الآية .

وقيل : لمَّا نزلت : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قالت اليهود : أوتينا التوراة ، وفيها علمُ كلِّ شيءٍ ، فأنزل الله تعالى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } .

والمِدَادُ : اسمٌ لما تمدُّ به الدَّواة من الحبرِ ، ولما يمدُّ به السِّراجُ من السَّليط ، وسمي المدادُ مداداً ؛ لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة .

وقال مجاهدٌ : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب " لنفِد البَحْرُ " أي : ماؤهُ .

قوله : " تنفد " : قرأ{[21367]} الأخوان " يَنْفدَ " بالياء من تحت ؛ لأنَّ التأنيث مجازي ، والباقون بالتاء من فوق ؛ لتأنيث اللفظ ، وقرأ السلميُّ - ورويت عن أبي عمرو وعاصم - " تنفَّد " بتشديد الفاء ، وهو مطاوع " نفَّد " بالتشديد ؛ نحو : كسَّرته ، فتكسَّر ، وقراءة الباقين مطاوع " أنْفَدتُّهُ " .

قوله : " ولَوْ جِئْنَا " جوابها محذوفٌ لفهم المعنى ، تقديره : لَنفِدَ ، والعامة على " مَدداً " بفتح الميم ، والأعمش{[21368]} قرأ بكسرها ، ونصبه على التمييز كقوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . *** فإنَّ الهوَى يَكْفِيكهُ مثلهُ صَبْرا{[21369]}

وقرأ{[21370]} ابن مسعود ، وابن عبَّاس " مِداداً " كالأول ، ونصبه على التَّمييز أيضاً عند أبي البقاء{[21371]} ، وقال غيره - كأبي الفضل الرازيِّ- : إنه منصوب على المصدر ، بمعنى الإمداد ؛ نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] قال : والمعنى : ولو أمددناهُ بمثله إمداداً .

فصل في معنى الآية

المعنى : ولو كان الخلائقُ يكتبون ، والبَحْرُ يمدُّهم ، لنفد ما في البحر ، ولم تنفدْ كلماتُ ربِّي { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي بمثل ماء البحر في كثرته .

قوله : { مََدداً } نظيره قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] .

واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّها صريحةٌ في إثباتِ كلماتٍ كثيرة لله تعالى .

قال ابن الخطيب{[21372]} : وأصحابنا حملوا الكلماتِ على متعلِّقات علم الله تعالى .

قال الجبائيُّ : وأيضاً قوله : { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } يدلُّ على أنَّ كلمات الله تعالى ، قد تنفدُ في الجملة ، وما ثبت عدمهُ ، امتنع قدمهُ .

وأيضاً قال : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .

وهذا يدلُّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه ، والذي يجيءُ به يكون محدثاً ، والذي يكون المحدثُ كلامهُ فهو أيضاً محْدَثٌ .

فالجوابُ : بأنَّ المراد به الألفاظ الدَّالَّة على تعلُّقات تلك الصِّفاتِ الأزليَّة .


[21366]:ينظر: معالم التنزيل 3/186.
[21367]:ينظر في قراءاتها: السبعة 402، والحجة 436، والنشر 2/316، والتيسير 146، والإتحاف 2/228، والحجة للقراء السبعة 5/183، وإعراب القراءات 1/423.
[21368]:ينظر: البحر 6/160، ونسبها إلى الأعرج، والدر المصون 4/487.
[21369]:ينظر البيت في البحر المحيط 6/160، روح المعاني 16/52 والدر المصون 4/487.
[21370]:ينظر: الإتحاف 2/229، والمحتسب 2/35؛ والقرطبي 11/46، والبحر 160، والدر المصون 4/487.
[21371]:ينظر: الإملاء 2/109.
[21372]:ينظر: الفخر الرازي 21/150.