قوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ، أي : للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى ، وهي الجنة ، وزيادة : وهي النظر إلى وجه الله ، هذا قول جماعة من الصحابة ، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وحذيفة ، وأبو موسى ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم ، وهو قول الحسين ، وعكرمة ، وعطاء ، ومقاتل ، والضحاك ، والسدي . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو العباس محمد بن يعقوب إملاء ، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصنعائي ، حدثنا الأسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت - يعني البناني - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ، قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ما هذا الموعود ؟ ألم يثقل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟ قال : فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه الله عز وجل . قال : فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إليه " . وروي عن ابن عباس : أن الحسنى هي : أن الحسنة بمثلها والزيادة هي التضعيف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وقال مجاهد : الحسنى : حسنة مثل حسنة ، والزيادة المغفرة والرضوان . { ولا يرهق } ، لا يغشى { وجوههم قتر } ، غبار ، جمع قترة . قال ابن عباس وقتادة : سواد الوجه ، { ولا ذلة } ، هوان . قال قتادة : كآبة . قال ابن أبي ليلى : هذا بعد نظرهم إلى ربهم . { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } .
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) .
( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئه بمثلها وترهقهم ذلة ، مالهم من الله من عاصم ، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما ، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون )
كانت آخر آية في الدرس السابق : ( والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين . ويكشف عن رحمة الله وفضله ، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء .
فأما الذين أحسنوا . أحسنوا الاعتقاد ، وأحسنوا العمل ، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم ، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام . . فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا ، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة :
( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) . .
وهم ناجون من كربات يوم الحشر ، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق :
( ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ) . .
والقتر : الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق . والذلة : الانكسار والمهانة أو الإهانة . فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة . . والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه ، فالنجاة من هذا كله غنيمة ، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه . .
( أولئك ) . . أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق ( أصحاب الجنة )وملاكها ورفاقها ( هم فيها خالدون ) .
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله{[14189]} الحسنى في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [ الرحمن : 60 ] .
وقوله : { وَزِيَادَة } هي{[14190]} تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وزيادة على ذلك [ أيضا ]{[14191]} ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القُصُور والحُور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين ، وأفضل من ذلك وأعلاه النظرُ إلى وجهه{[14192]} الكريم ، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه ، لا يستحقونها بعملهم ، بل بفضله ورحمته{[14193]} وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله{[14194]} الكريم ، عن أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس [ قال البغوي وأبو موسى وعبادة بن الصامت ]{[14195]} وسعيد بن المسيب ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الرحمن بن سابط ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعامر بن سعد ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم من السلف والخلف .
وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن صهيب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه . فيقولون : وما هو ؟ ألم يُثقِّل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا من النار ؟ " . قال : " فيكشف{[14196]} لهم الحجاب ، فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم " .
وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة ، من حديث حماد بن سلمة ، به . {[14197]}
وقال ابن جرير : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب : أخبرنا شبيب ، عن أبان{[14198]} عن أبي تَمِيمَة الهُجَيْمي ؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا أهل الجنة - بصَوْت يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم - : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، الحسنى : الجنة . وزيادة : النظر إلى وجه الرحمن عز وجل " . {[14199]}ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم ، من حديث أبي بكر الهُذلي{[14200]} عن أبي تميمة الهجيمي ، به .
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا إبراهيم بن المختار{[14201]} عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن كعب بن عُجْرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه الرحمن عز وجل . {[14202]} وقال أيضا : حدثنا ابن عبد الرحيم{[14203]} حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، سمعت زهيرًا عمن سمع أبا العالية ، حدثنا أبيّ بن كعب : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : " الحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل " . {[14204]} ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير ، به .
وقوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي : قتام وسواد في عَرَصات المحشر ، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة ، { وَلا ذِلَّةٌ } أي : هوان وصغار ، أي : لا يحصل لهم إهانة في الباطن ، ولا في الظاهر ، بل هم كما قال تعالى في حقهم : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } أي : نضرة في وجوههم ، وسرورًا في قلوبهم ، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته ، آمين .
وقوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } الآية ، قالت فرقة وهي الجمهور : { الحسنى } الجنة و «الزيادة » النظر إلى وجه الله عز وجل ، وروي في نحو ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه صهيب{[6086]} ، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وحذيفة وأبي موسى الأشعري وعامر بن سعد وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : «الزيادة » غرفة من لؤلؤة واحدة ، وقالت فرقة { الحسنى } هي الحسنة ، و «الزيادة » هي تضعيف الحسنات إلى سبعمائة فدونها حسبما روي في نص الحديث ، وتفسير قوله تعالى : { والله يضاعف لمن يشاء } [ البقرة : 261 ] ، وهذا قول يعضده النظر ولولا عظم القائلين بالقول الأول لترجح هذا القول ، وطريق ترجيحه أن الآية تتضمن اقتراناً بين ذكر عمال الحسنات وعمال السيئات ، فوصف المحسنين بأن لهم حسنى وزيادة من جنسها ، ووصف المسيئين بأن لهم بالسيئة مثلها فتعادل الكلامان ، وعبر عن الحسنات ب { الحسنى } مبالغة ، إذ هي عشرة ، وقال الطبري : { الحسنى } عام في كل حسنى فهي تعم جميع ما قيل ، ووعد الله تعالى على جميعها بالزيادة ، ويؤيد ذلك ذلك أيضاً قوله { أولئك أصحاب الجنة } ، ولو كان معنى { الحسنى } الجنة لكان في القول تكرير بالمعنى ، على أن هذا ينفصل عنه بأنه وصف المحسنين بأن لهم الجنة وأنهم لا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة ، ثم قال { أولئك أصحاب الجنة } على جهة المدح لهم ، أي أولئك مستحقوها وأصحابها حقاً وباستيجاب . و { يرهق } معناه يغشى مع ذلة وتضييق ، والقتر الغبار المسود ، ومنه قول الشاعر [ الفرزدق ] : [ البسيط ]
متوج برداء الملك يتبعه*** موج ترى وسطه الرايات والقترا{[6087]}
وقرأ الحسن وعيسى بن عمر والأعمش وأبو رجاء «قتْر » بسكون التاء .
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ يونس : 25 ] لأن الهداية بمن يشاء تفيد مهدياً وغير مهدي . ففي هذه الجملة ذِكر ما يشتمل عليه كلا الفريقين ، ولك أن تجعلها بدل مفصَّل من مجمل .
ولما أوقع ذكر الذين أحسنوا في جملة البيان عَلم السامع أنهم هم الذين هداهم الله إلى صراط مستقيم وأن الصراط المستقيم هو العمل الحسن ، وأن الحُسنى هي دار السلام . ويشرح هذه الآية قوله تعالى في سورة [ الأنعام : 125 127 ] : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيماً قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون } .
والحسنى : في الأصل صفةُ أثنى الأحسن ، ثم عوملت معاملة الجنس فأدخلت عليها لام تعريف الجنس فبعدت عن الوصفية ولَم تَتبع موصوفها .
وتعريفها يفيد الاستغراق ، مثل البُشرى ، ومثل الصالحة التي جمعها الصالحات . والمعنى : للذين أحسنوا جنسُ الأحوال الحسنى عندهم ، أي لهم ذلك في الآخرة . وبذلك تعين أن ماصْدقها الذي أريد بها هو الجنة لأنها أحسن مثوبة يصير إليها الذين أحسنوا وبذلك صيرها القرآن علماً بالغلبة على الجنة ونعيمها من حصول الملاذ العظيمة .
والزيادة يتعين أنها زيادة لهم ليست داخلة في نوع الحُسنى بالمعنى الذي صار علماً بالغلبة ، فلا ينبغي أن تفسر بنوع مما في الجنة لأنها تكون حينئذٍ مما يستغرقه لفظ الحسنى فتعين أنها أمر يرجع إلى رفعة الأقدار ، فقيل : هي رضى الله تعالى كما قال : { ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] ، وقيل : هي رؤيتهم الله تعالى . وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في « صحيح مسلم » و« جامع الترمذي » عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد : إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيض وجوهنا وتنجنا من النار وتدخلنا الجنة ، قال : فيُكشف الحجاب ، قال : فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه . وهو أصرح ما ورد في تفسيرها .
والرهق : الغشيان . وفعله من باب فرح .
والقَتَرُ : لوْنٌ هو غُبرة إلى السواد . ويقال له قترة والذي تخلص لي من كلام الأيمة والاستعمال أن القترة لون يغشى جلدة الوجه من شدة البؤس والشقاء والخوفِ . وهو من آثار تهيج الكَبد من ارتجاف الفؤاد خوفاً وتوقعاً .
والذلة : الهوان . والمراد أثر الذلة الذي يبدو على وجه الذليل . والكلام مستعمل في صريحه وكنايته ، أي لا تتشوه وجوههم بالقتر وأثر الذلة ولا يحصل لهم ما يؤثر القتر وهيئة الذلة .
وليس معنَى نفي القتر والذلة عنهم في جملة أوصافهم مديحاً لهم لأن ذلك لا يخطر بالبال وقوعاً بعد أن أثبت لهم الحسنى وزيادة بل المعنى التعريض بالذين لم يهدهم الله إلى صراط مستقيم وهم الذين كسبوا السيئات تعجيلاً للمساءة إليهم بطريق التعريض قبل التصريح الذي يأتي في قوله : { وتَرهقهم ذلة } إلى قوله : { مظلماً } [ يونس : 27 ] .
وجملة : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } نتيجة للمقدمة ، فبينها وبين التي قبلها كمال الاتصال ولذلك فصلت عنها ولم تعطف .
واسم الإشارة يرجع إلى { الذين أحسنوا } . وفيه تنبيه على أنهم استحقوا الخلود لأجل إحسانهم نظير قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] .