الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞لِّلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ ٱلۡحُسۡنَىٰ وَزِيَادَةٞۖ وَلَا يَرۡهَقُ وُجُوهَهُمۡ قَتَرٞ وَلَا ذِلَّةٌۚ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (26)

قوله تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها مستأنفةٌ . والثاني : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه الجارُّ ، وهو " للذين " لوقوعه خبراً عن " الحسنى " قاله أبو البقاء ، وقدَّره بقوله : " استقرَّ لهم الحسنى مضموماً لهم السَّلامة " ، وهذا ليس بجائز لأن المضارعَ متى وقع حالاً منفيَّاً ب " لا " امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت ، وإن وَرَدَ ما يُوهم ذلك يُؤَوَّل بإضمار مبتدأ ، وقد تقدم تحقيقُه غيرَ مرة . والثالث : أنه في محلِّ رفع نسقاً على " الحسنى " ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدري يَصِحُّ جَعْلُه معه مخبراً عنه بالجارّ ، والتقدير : للذين أحسنوا الحسنى ، وأنْ لا يرهق ، أي : وعدم رَهَقِهم ، فلمَّا حُذِفت " أن " رُفع الفعلُ المضارع لأنه ليس من مواضع إضمار " أنْ " ناصبة وهذا كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ }

[ الروم : 24 ] ، أي : أن يُرِيَكم ، وقوله : " تَسْمع بالمُعَيْدِيّ خيرٌ من أن تراه " ، وقوله :

2582 ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوَغَى *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أي : أن أحضر . رُوي برفع " أحضر " ونصبه . ومنع أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : " ولا يجوز أن يكون معطوفاً على " الحسنى " لأن الفعل إذا عُطِفَ على المصدر احتاج إلى " أَنْ " ذِكْراً أو تقديراً ، و " أنْ " غيرُ مقدرة لأن الفعلَ مرفوع " ، فقوله : " وأَنْ غيرُ مقدرةٍ ، لأن الفعل مرفوع " ليس بجيد لأن قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] معه " أنْ " مقدرة مع أنه مرفوع ، ولا يَلْزم من إضمار " أنْ " نصب المضارع ، بل المشهورُ أنه إذا أُضْمرت " أن " في غير المواضع التي نصَّ النحويون على إضمارها ناصبة ارتفعَ الفعلُ ، والنصبُ قليلٌ جدا .

والرَّهَق : الغِشْيان . يقال : رَهِقَه يَرْهَقُه رَهَقا ، أي : غَشِيَهُ بسرعة ، ومنه

{ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي } [ الكهف : 37 ] { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }

[ الجن : 13 ]/ يقال : رَهِقْتُه وأَرْهَقْتُه نحو : رَدِفْتُه وأَرْدَفْتُه ، فَفَعَل وأَفْعل بمعنىً ، ومنه : " أَرْهَقْت الصلاةَ " إذا أخَّرْتَها حتى غَشِي وقتُ الأخرى ، ورجلٌ مُرْهَق ، أي : يغشاه الأضياف . وقال الأزهري : " الرَّهَق " اسمٌ من الإِرهاق ، وهو أن يَحْمِلَ الإِنسانُ على نفسه ما لا يُطيق ، ويقال : " أَرْهَقْتُه عن الصلاة " ، أي : أَعْجَلْتُه عنها . وقال بعضهم . أصلُ الرَّهَق : المقاربة ، ومنه غلامٌ مراهِق ، أي : قارب الحُلُم ، وفي الحديث : " ارهَقُوا القِبلة " ، أي : اقرُبوا منها ، ومنه " رَهِقَتِ الكلابُ الصيدَ " ، أي : لحقته .

والقَتَر والقَتَرة : الغبار معه سوادٌ وأنشدوا للفرزدق :

2583 مُتَوَّجٌ برِداء المُلك يَتْبَعُه *** موجٌ ترى فوقه الراياتِ والقترا

أي : غبار العسكر . وقيل : القَتَرُ : الدخان ، ومنه " قُتار القِدْر " . وقيل : القَتْر : التقليل ومنه { لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] ، ويقال : قَتَرْتُ الشيء وأَقْتَرْتُه وقتَّرته ، أي : قَلَّلْته ، ومنه { وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ }

[ البقرة : 236 ] ، وقد تقدم . والقُتْرَةُ : ناموس الصائد . وقيل : الحفرة ، ومنه قول امرىء القيس :

2584 رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ *** مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ

أي : في حفرته التي يَحْفرها . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر وأبو رجاء والأعمش " قَتْرٌ " بسكونِ التاء وهما لغتان قَتْر وقَتَرَ كقَدْر وقَدَر .