معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

قوله تعالى : { وكان الله سميعا بصيرا يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } . يعني : كونوا قائمين بالشهادة بالقسط ، أي : بالعدل لله . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ( كونوا قوامين بالعدل ) في الشهادة على من كانت له .

قوله تعالى : { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } في الرحم ، أي : قولوا الحق ولو على أنفسكم بالإقرار ، أو الوالدين والأقربين ، فأقيموها عليهم ، ولا تحابوا غيناً لغناه ، ولا ترحموا فقيراً لفقره ، فذلك قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } ، منكم ، أي أقيموا على المشهود عليه وإن كان غنياً ، وللمشهود له وإن كان فقيراً ، فالله أولى بهما منكم ، أي كلوا أمرهما إلى الله . وقال الحسن : معناه الله أعلم بهما .

قوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } ، أي تجوروا ، وتميلوا إلى الباطل من الحق ، وقيل : معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، أي : لتكونوا عادلين ، كما يقال : لا تتبع الهوى لترضي ربك .

قوله تعالى : { وإن تلووا } أي : تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق .

قوله تعالى : { أو تعرضوا } عنها فتكتموها ، ولا تقيموها ، ويقال : تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويته حقه إذا حقه إذا دفعته ، وأبطلته ، وقيل : هذا خطاب مع الحكام في ليهم الاشداق ، يقول : ( وإن تلووا ) أي تميلوا إلى أحد الخصمين ، أو تعرضوا عنه ، قرأ ابن عامر وحمزة { تلوا } بضم اللام ، قيل : أصله تلووا ، فحذفت إحدى الواوين تخفيفاً . وقيل : معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة ، أو تعرضوا فتتركوا أداءها .

قوله تعالى : { فإن الله كان بما تعملون خبيرا } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

135

( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين - إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ؛ فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا . وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ) . .

إنه نداء للذين آمنوا . نداء لهم بصفتهم الجديدة . وهي صفتهم الفريدة . صفتهم التي بها أنشئوا نشأة أخرى ؛ وولدوا ميلاد آخر . ولدت أرواحهم ، وولدت تصوراتهم ، وولدت مبادئهم وأهدافهم ، وولدت معهم المهمة الجديدة التي تناط بهم ، والأمانة العظيمة التي وكلت إليهم . . أمانة القوامة على البشرية ، والحكم بين الناس بالعدل . . ومن ثم كان للنداء بهذه الصفة قيمته وكان له معناه : يا أيها الذين آمنوا . . . فبسبب من اتصافهم بهذه الصفة ، كان التكليف بهذه الأمانة الكبرى . وبسبب من اتصافهم بهذه الصفة كان التهيؤ والاستعداد للنهوض بهذه الأمانة الكبرى . .

وهي لمسة من لمسات المنهج التربوي الحكيم ؛ تسبق التكليف الشاق الثقيل :

كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله - ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين . إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهمًا . .

إنها أمانة القيام بالقسط . . بالقسط على إطلاقه . في كل حال وفي كل مجال . القسط الذي يمنع البغي والظلم - في الأرض - والذي يكفل العدل - بين الناس - والذي يعطي كل ذي حق حقه من المسلمين وغير المسلمين . . ففي هذا الحق يتساوى عند الله المؤمنون وغير المؤمنين - كما رأينا في قصة اليهودي - ويتساوى الأقارب والأباعد . ويتساوى الأصدقاء والأعداء . ويتساوى الأغنياء والفقراء . .

( كونوا قوامين بالقسط ، شهداء لله ) . .

حسبة لله . وتعاملا مباشرا معه . لا لحساب أحد من المشهود لهم أو عليهم . ولا لمصلحة فرد أو جماعة أو أمة . ولا تعاملا مع الملابسات المحيطة بأي عنصر من عناصر القضية . ولكن شهادة لله ، وتعاملا مع الله . وتجردا من كل ميل ، ومن كل هوى ، ومن كل مصلحة ، ومن كل اعتبار .

( ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) . .

وهنا يحاول المنهج تجنيد النفس في وجه ذاتها ، وفي وجه عواطفها ، تجاه ذاتها أولا ، وتجاه الوالدين والأقربين ثانيا . . وهي محاولة شاقة . . أشق كثيرا من نطقها باللسان ، ومن إدراك معناها ومدلولها بالعقل . . إن مزاولتها عمليا شيء آخر غير إدركها عقليا . ولا يعرف هذا الذي نقوله إلا من يحاول أن يزاول هذه التجربة واقعيا . . ولكن المنهج يجند النفس المؤمنة لهذه التجربة الشاقة . لأنها لا بد أن توجد . لا بد ان توجد في الأرض هذه القاعدة . ولا بد أن يقيمها ناس من البشر .

ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها الفطرية أو الاجتماعية ؛ حين يكون المشهود له أو عليه فقيرا ، تشفق النفس من شهادة الحق ضده ، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه . أو من يكون فقره مدعاة للشهادة ضده بحكم الرواسب النفسية الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية . وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا ؛ تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته . أو قد يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده ! وهي مشاعر فطرية أو مقتضيات اجتماعية لها ثقلها حين يواجهها الناس في عالم الواقع . . والمنهج يجند النفس تجاهها كذلك كما جندها تجاه حب الذات ، وحب الوالدين والأقربين .

( إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ) . .

وهي محاولة شاقة . . ولا نفتأ نكرر أنها محاولة شاقة . . وأن الإسلام حين دفع نفوس المؤمنين - في عالم الواقع - إلى هذه الذروة ، التي تشهد بها تجارب الواقع التي وعاها التاريخ - كان ينشى ء معجزة حقيقية في عالم البشرية . معجزة لا تقع إلا في ظل هذا المنهج الإلهي العظيم القويم .

( فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) . .

والهوى صنوف شتى ذكر منها بعضها . . حب الذات هوى . وحب الأهل والأقربين هوى . والعطف على الفقير - في موطن الشهادة والحكم - هوى . ومجاملة الغني هوى . ومضارته هوى . والتعصب للعشيرة والقبيلة والأمة والدولة والوطن - في موضع الشهادة والحكم - هوى . وكراهة الأعداء ولو كانوا أعداء الدين - في موطن الشهادة والحكم - هوى . . وأهواء شتى الصنوف والألوان . . كلها مما ينهي الله الذين آمنوا عن التأثر بها ، والعدول عن الحق والصدق تحت تأثيرها .

وأخيرًا يجيء التهديد والإنذار والوعيد من تحريف الشهادة ، والإعراض عن هذا التوجيه فيها . .

وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا . .

ويكفي أن يتذكر المؤمن أن الله خبير بما يعمل ، ليستشعر ماذا وراء هذا من تهديد خطير ، يرتجف له كيانه . . فقد كان الله يخاطب بهذا القرآن المؤمنين !

حدث أن عبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - لما بعثه رسول الله [ ص ] يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة ، حسب عهد رسول الله [ ص ] بعد فتح خيبر . . أن حاول اليهود رشوته ليرفق بهم ! فقال لهم : " والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي .

لقد كان - رضي الله عنه - قد تخرج في مدرسة الرسول [ ص ] على المنهج الرباني المنفرد . وكان إنسانا من البشر خاض هذه التجربة الشاقة ونجح ؛ وحقق - كما حقق الكثيرون غيره في ظل ذلك المنهج - تلك المعجزة التي لا تقع إلا في ظل ذلك المنهج !

ولقد مضت القرون تلو القرون بعد تلك الفترة العجيبة ؛ وحفلت المكتبات بكتب الفقه والقانون ؛ وحفلت الحياة بالتنظيمات والتشكيلات القضائية ؛ وضبط الإجراءات والشكليات التنظيمية . وامتلأت الرؤوس بالكلام عن العدالة ؛ وامتلأت الأفواه بالحديث عن إجراءاتها الطويلة . . ووجدت نظريات وهيئات وتشكيلات منوعة لضبط هذا كله . .

ولكن التذوق الحقيقي لمعنى العدالة ؛ والتحقق الواقعي لهذا المعنى في ضمائر الناس وفي حياتهم ؛ والوصول إلى هذه الذروة السامقة الوضيئة . . لم يقع إلا في ذلك المنهج . . في تلك الفترة العجيبة في ذروة القمة . . وبعدها على مدار التاريخ في الأرض التي قام فيها الإسلام . وفي القلوب التي عمرت بهذه العقيدة . وفي الجماعات والأفراد التي تخرجت على هذا المنهج الفريد .

وهذه حقيقة ينبغي أن يتنبه إليها الذين يؤخذون بالتشكيلات القضائية التي جدت ؛ وبالإجراءات القضائية التي استحدثت ؛ وبالأنظمة والاوضاع القضائية التي نمت وتعقدت . فيحسبون أن هذا كله أقمن بتحقيق العدالة وأضمن مما كان في تلك الإجراءات البسيطة في تلك الفترة الفريدة ! في تلك القرون البعيدة ! وأن الأمور اليوم أضبط وأحكم مما كانت على صورتها البسيطة !

هذا وهم تنشئه الأشكال والأحجام في تصورات من لا يدركون حقائق الأشياء والأوضاع . . إن المنهج الرباني وحده هو الذي يبلغ بالناس ما بلغ على بساطة الأشكال وبساطة الأوضاع . . وهو وحده الذي يمكن أن يبلغ بالناس هذا المستوى على ما استحدث من الأشكال والأوضاع !

وليس معنى هذا أن نلغي التنظيمات القضائية الجديدة . ولكن معناه أن نعرف أن القيمة ليست للتنظيمات . ولكن للروح التي وراءها . أيا كان شكلها وحجمها وزمانها ومكانها . . والفضل للأفضل بغض النظر عن الزمان والمكان ! ! !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله{[8464]} لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه .

وقوله : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } كَمَا قَالَ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : اشهد الحق{[8465]} ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مَضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه .

وقوله : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تُراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد .

وقوله : { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : لا ترعاه{[8466]} لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما .

وقوله { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ]

ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : " بهذا قامت السماوات والأرض " . وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [ تعالى ]{[8467]} .

وقوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : { تَلْوُوا } أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، " واللّي " هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] {[8468]} } [ آل عمران : 78 ] . و " الإعراض " هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها " . ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : وسيجازيكم بذلك .


[8464]:في ر: "لا يأخذهم في الحق لومة لائم".
[8465]:في ر: "بالحق".
[8466]:في أ: "لا يرضاه".
[8467]:زيادة من: أ.
[8468]:زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للّهِ وَلَوْ عَلَىَ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَىَ بِهِمَا فَلاَ تَتّبِعُواْ الْهَوَىَ أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } . .

وهذا تقدّمٌ من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق ، أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه وذبهم عنهم وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر¹ يقول الله لهم : { يا أيّها الّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ } يقول : ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط ، يعني بالعدل . { شُهَدَاءَ لِلّهِ } والشهداء : جمع شهيد ، ونصبت الشهداء على القطع مما في قوله : «قوّامين » ، من ذكر الذين آمنوا ، ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم ، أو حين شهادتكم . { وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ } يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على والديكم أو أقربيكم ، فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحقّ ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على غنيّ فتجوروا ، فإن الله الذي سوّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل أولى بهما ، وأحقّ منكم ، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليها . { فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } يقول : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغنيّ على فقير أو لفقير على غنيّ إلا أحد الفريقين فتقولوا غير الحقّ ، ولكن قوموا فيه بالقسط وأدّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله .

فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط ، وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟ قيل¹ نعم ، وذلك أن يكون عليه حقّ لغيره ، فيقرّ له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه . وهذه الاَية عندي تأديب من الله جلّ ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح ، فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه ، فقوموا فيها بالعدل ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم ، فلا يحملنكم غني من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمة منكم على الشهادة له بالزور ولا على ترك الشهادة عليه بالحقّ وكتمانها . وقد قيل : إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن حسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } قال : نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم ، واختصم إليه رجلان غنيّ وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيّ ، فأبي الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنيّ والفقير ، فقال : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أو فَقِيرا فاللّهُ أوْلَى بِهِما فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } . . . الاَية .

وقال آخرون في ذلك نحو قولنا إنها نزلت في الشهادة أمرا من الله المؤمنين أن يسوّوا في قيامهم بشهاداتهم لمن قاموا بها بين الغني والفقير . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْط شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أو الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ } قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيا لغناه ، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِمَا فَلا تَتّبِعُوا الهَوَى أن تَعْدِلوا } فتذروا الحقّ فتجورُوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة ، قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأوّلون في ذلك قول الله : { يا أيّها الّذين آمَنُوا كونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ على أنْفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا فاللّهُ أوْلى بِهِما } . . . الاَية ، فلم يكن يُتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دَخِلَ الناس بعد ذلك فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من أقربائهم وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة ، قال : يقول هذا للشاهد .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . الاَية ، هذا في الشهادة ، فأقم الشهادة يا ابن آدم ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو أشراف قومك ، فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه¹ والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض ، به يردّ الله من الشديد على الضعيف ، من الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحقّ ، وبالعدل يصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويردّ المعتدي ، ويوبخه تعالى ربنا وتبارك ، وبالعدل يصلح الناس . يا ابن آدم إن يكن غنيا أو فقيرا ، فالله أولى بهما ، يقول : أولى بغنيكم وفقيركم . قال : وذكر لنا أن نبيّ الله موسى عليه السلام قال : يا ربّ أيّ شيء وضعت في الأرض أقلّ ؟ قال : «العدل أقلّ ما وضعت في الأرض ، فلا يمنعك غني عنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك من الحق » . وقال جلّ ثناؤه : { فاللّهُ أوْلى بِهِما } .

وقد قيل : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } . . . الاَية ، أريد : فالله أولى بغني الغنيّ وفقر الفقير ، لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال «بهما » ، ولم يقل «به » .

وقال آخرون : إنما قيل «بهما » لأنه قال : { إنْ يَكُنْ غَنيّا أوْ فَقِيرا } فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه ، وهو مجهول ، وإذا كان مجهولاً جاز الردّ عليه بالتوحيد والتثنية والجمع . وذكر قائلوا هذا القول أنه في قراءة أبيّ : «فاللّهُ أوْلى بِهِمْ » .

وقال آخرون : «أو » بمعنى الواو في هذا الموضع .

وقال آخرون : جاز تثنية قوله «بهما » ، لأنهما قد ذكرا كما قيل : { ولَهُ أخٌ أوْ أُخْتٌ فِلُكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا } . وقيل : جاز لأنه أضمر فيه «مَنْ » كأنه قيل : إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا ، بمعنى : غنيين أو فقيرين ، فالله أولى بهما .

وتأويل قوله¹ { فَلا تَتّبعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا } أي عن الحقّ ، فتجوروا بترك إقامة الشهادة بالحقّ . ولو وُجّه إلى أن معناه : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحقّ في إقامة الشهادة بالقسط كان وجها . وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا ، كما يقال : لا تتبع هواك لترضي ربك ، بمعنى : أنهاك عنه كما ترضي ربك بتركه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عني : وإن تلووا أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الاَخر أو تعرضوا ، فإن الله كان بما تعملون خبيرا . ووجهوا معنى الاَية إنها نزلت في الحكام على نحو القول الذي ذكرنا عن السديّ من قوله : إن الاَية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على ما ذكرنا قبل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لَيّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الاَخر .

وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا أيها الشهداء في شهاداتكم فتحرّفوها ولا تقيموها ، أو تعرضوا عنها فتتركوها . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } . . . إلى قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يقول : تلوي لسانك بغير الحقّ ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . والإعراض الترك .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } : أي تبدلّوا الشهادة¹ { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : بتبديل الشهادة ، والإعراض : كتمانها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرضُوا } قال : إن تحرّفوا ، أو تتركوا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : تلجلجوا أو تكتموا¹ وهذا في الشهادة .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فتلوي للشهادة فتحرّفها حتى لا تقيمها¹ وأما «تعرضوا » : فتعرض عنها فتكتمها وتقول : ليس عندي شهادة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { وَإنْ تَلْوُوا } فتكتموا الشهادة ، تلوي : تنقض منها ، أو تعرض عنها فتكتمها فتأبي أن تشهد عليه ، تقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه فتقول : لا أقيم الشهادة عليه ، وتقول : هذا غنيّ أبقيه وأرجو ما قَبِله فلا أشهد عليه ، فذلك قوله : { إنْ يَكُنْ غَنِيّا أوْ فَقِيرا } .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وإنْ تَلْوُوا } تحرّفوا { أوْ تُعْرِضُوا } : تتركوا .

حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا حسن بن عطية ، قال : حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها ، { أوْ تُعْرِضُوا } قال : فتتركوها .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيموها على وجهها { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تكتموا الشهادة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة أنه كان يقول : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } يعني : تلجلجوا { أوْ تُعْرِضُوا } قال : تدعها فلا تشهد .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } أما تلووا : فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحقّ ، يعني في الشهادة .

قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله : إنه ليّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه¹ وذلك تحريفه إياها لسانه وتركه إقامتها ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له وعمن شهد عليه . وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها فلا يشهد بها . وإنما قلنا هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : { كُونُوا قَوّامينَ بالقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ } فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء ، وأظهر معاني الشهداء ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : { وَإنْ تَلْوُوا } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى الكوفة { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين من : لو أني الرجل حقي ، والقوم يلوونني دَيْني ، وذلك إذا مَطَلوه ، لَيّا . وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة : «وَإنْ تَلُوا » بواو واحدة¹ ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان : أحدهما أن يكون قارئها أراد همز الواو لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة ، كأنه أراد : تلوؤا ، ثم حذف الهمز . وإذا عني هذا الوجه كان معناه معنى من قرأ : { وَإنْ تَلْوُوا } بواوين غير أنه خالف المعروف من كلام العرب ، وذلك أن الواو الثانية من قوله : { تَلْوُوا } واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصحّ همزها ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت الواو المحذوفة . والوجه الاَخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : إن تلوا ، من الولاية ، فيكون معناه : وإن تلوا أمور الناس ، أو تتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارىء قراءته على ما وصفنا إليه ، خارج عن معاني أهل التأويل وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون تأويل الاَية . فإذا كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : { وَإنْ تَلْوُوا أوْ تُعْرِضُوا } بمعنى الليّ : الذي هو مطل ، فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها ، وتبدّلوا ، أو تعرضوا عنها ، فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل ، فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلاً منه له ، كما قال الأعشى :

يَلْوِينَنِي دَيْنِي النّهارَ وأقْتَضِي ***دَيْنِي إذا وَقَذَ النُعّاسُ الرّقّدَا

وأما تأويل قوله : { فإنّ اللّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرا } فإنه أراد : فإن الله كان بما تعملون من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها وإعراضكم عنها بكتمانكموها ، خبيرا ، يعني : ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم حتى يجازيكم به جزاءكم في الاَخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء باساءته ، يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّـٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا} (135)

ثم خاطب تعالى المؤمنين بقوله { كونوا قوامين } الآية ، وهذا بناء مبالغة ، أي ليتكرر منكم القيام . { بالقسط } وهو العدل ، وقوله { شهداء } نصب على خبر بعد خبر والحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط ، قوله { لله } المعنى لذات الله ولوجهه ولمرضاته ، وقوله { ولو على أنفسكم } متعلق ب { شهداء }{[4326]} هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس ، وأن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق ، ويحتمل أن يكون قوله { شهداء لله } معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله { ولو على أنفسكم } ب { قوامين بالقسط } ، والتأويل الأول أبين ، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقائق وقوله الحق في كل أمر ، وقيامه بالقسط عليها كذلك ، ثم ذكر { الوالدين } لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى ب { الأقربين } إذ هم مظنة المودة والتعصب ، فجاء الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، وهذه الآية إنما تضمنت الشهادة على القرابة ، فلا معنى للتفقه منها في الشهادة لهم كما فعل بعض المفسرين ولا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وقوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } معناه : إن يكن المشهود عليه غنياً فلا يراعى لغناه ، ولا يخاف منه ، وإن يكن فقيراً فلا يراعى إشفاقاً عليه فإن الله تعالى أولى بالنوعين وأهل الحالين ، والغني والفقير اسما جنس والمشهود عليه كذلك ، فلذلك ثنى الضمير في قوله { بهما } ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «فالله أولى بهم » على الجمع ، وقال الطبري : ثنى الضمير لأن المعنى فالله أولى بهذين المعنيين ، غنى الغني وفقر الفقير ، أي : وهو أنظر فيهما ، وقد حد حدوداً وجعل لكل ذي حق حقه ، وقال قوم { أو } بمعنى الواو ، وفي هذا ضعف .

وذكر السدي : أن هذه الآية نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ، اختصم إليه غني وفقير ، فكان في ضلع الفقيرعلما منه أن الغني أحرى أن يظلم الفقير ، فأبى إلا أن يقوم بالقسط بين الغني والفقير .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق : وارتبط هذا الأمر على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «فأقضي له على نحو ما أسمع »{[4327]} أما أنه قد أبيح للحاكم أن يكون في ضلع الضعيف{[4328]} ، بأن يعتد له المقالات ويشد على عضده ، ويقول له : قل حجتك مدلاً ، وينبهه تنبيهاً لا يفت في عضد الآخر ، ولا يكون تعليم خصام ، هكذا هي الرواية عن أشهب وغيره .

وذكر الطبري : أن هذه الآية هي بسبب نازلة طعمة بن أبيرق ، وقيام من قام في أمره بغير القسط ، وقوله تعالى : { فلا تتبعوا الهوى } نهي بيِّن ، واتباع الهوى مردٍ مهلك ، وقوله تعالى : { أن تعدلوا } يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون لعدل هنا بمعنى العدول عن الحق ، ويحتمل أن يكون معناه محبة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط ، كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا أو محبة أن تقسطوا ، فإن جعلت العامل { تتبعوا } فيحتمل أن يكون المعنى محبة أن تجوروا ، وقوله تعالى : { وأن تلووا أو تعرضوا } قال ابن عباس : هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر فاللّي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنقاذه للذي يميل القاضي عليه ، وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك ، والله حسيب الكل ، وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم : هي في الشاهد يلوي الشهادة بلسانه ويحرفها ، فلا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها .

قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة والتوسط بين الناس ، وكل إنسان مأخوذ بأن يعدل ، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة فتأمله . وقرأ جمهور الناس «تلووا » بواوين من لوى يلوي على حسب ما فسرناه ، وقرأ حمزة وابن عامر وجماعة في الشاذ «وأن تلُو » بضم اللام وواو واحدة ، وذلك يحتمل أن يكون أصله «تلئوا » على القراءة الأولى ، همزت الواو المضمومة كما همزت في أدؤر ، وألقيت حركتها على اللام التي هي فاء «لوى » ثم حذفت لاجتماع ساكنين ، ويحتمل أن تكون «تلوا » من قولك ولي الرجل الأمر ، فيكون في الطرف الآخر من { تعرضوا } كأنه قال تعالى للشهود وغيرهم : وإن وليتم الأمر وأعرضتم عنه فالله تعالى خبير بفعلكم ومقصدكم فيه ، فالولاية والإعراض طرفان ، والليّ والإعراض في طريق واحد ، وباقي الآية وعيد .


[4326]:- قال في "البحر المحيط": "لو- في قوله تعالى: {ولو على أنفسكم}- شرطية بمعنى [إن]، وقوله: {على أنفسكم} متعلق بمحذوف، لأن التقدير: وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله. وحذف [كان] بعد [لو] كثير، تقول: ائتني بتمر ولو حشفا، أي: وإن كان التمر حشفا فأتني به"، ثم علّق على قول ابن عطية: "إن قوله: {ولو على أنفسكم} متعلق بـ [شهداء]"، فقال: "إن عني [شهداء] هذا الملفوظ فلا يصح ذلك، وإن عني الذي قدرناه نحن فيصح" اهـ (البحر المحيط 3/ 369).
[4327]:- هذا جزء من حديث رواه مالك بن أنس عن أم سلمة، وكذلك رواه سفيان أيضا عن أم سلمة، وهو أيضا في البخاري، وفي رواية مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليّ فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار).
[4328]:- ضلع الضعيف- بفتح الضاد واللام، يقال: ضلع-بفتح فكسر- مع فلان ضلعا –بفتحتين- بمعنى: مال إليه وعاونه.