قوله تعالى : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } . قيل : أراد نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر ، وأحد ، على عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مقاتل : أراد نفقة اليهود على علمائهم ، قال مجاهد : يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم ، وقيل : أراد إنفاق المرائي الذي لا يبتغي به وجه الله تعالى .
قوله تعالى : { كمثل ريح فيها صر } . حكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها ، السموم الحارة التي تقتل ، وقيل : فيها صر أي : صوت ، وأكثر المفسرين : قالوا : فيها برد شديد .
قوله تعالى : { أصابت حرث قوم } . زرع قوم .
قوله تعالى : { ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى .
قوله تعالى : { فأهلكته } . فمعنى الآية : مثل نفقات الكفار وذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، أو نار فأحرقته فلم ينتفع أصحابه منه لشيء .
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة ! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف ، فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب !
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر ، فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا . له هدف مرسوم ، وله دافع مفهوم ، وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة ، والرغبة الغامضة ، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار ، فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم . إنما هو ظلمهم لأنفسهم ، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار ، قاله مجاهد والحسن ، والسُّدِّي ، فقال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي : بَرْد شديد ، قاله ابن عباس ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير وقتادة والحسن ، والضّحّاك ، والرَّبِيع بن أنس ، وغيرهم . وقال عطاء : بَرْد وجَلِيد . وعن ابن عباس أيضًا ومجاهد { فِيهَا صِرٌّ } أي : نار . وهو يرجع إلى الأول ، فإن البرد الشديد - سيّما{[5585]} الجليد{[5586]} - يحرق الزروع والثمار ، كما يحرق الشيء بالنار { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أي : أحرقته ، يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جدَادُه أو حَصَاده فدمَّرَتْه وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع ، فذهبت به وأفسدته ، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه . فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرةَ هذا الحرث بذنوب صاحبه . وكذلك هؤلاء بَنَوْهَا على غير أصْل وعلى غير أساس { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَِذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلََكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
يعني بذلك جلّ ثناؤه : شبه ما ينفق الذين كفروا : أي شبه ما يتصدق به الكافر من ماله ، فيعطيه من يعطيه على وجه القربة إلى ربه ، وهو لوحدانية الله جاحد ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذّب في أن ذلك غير نافعه مع كفره ، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه ذاهب بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه ، كشبه ريح فيها برد شديد { أصَابَتْ } هذه الريح التي فيها البرد الشديد { حَرْثَ قَوْمٍ } يعني زرع قوم ، قد أمّلوا إدراكه ، ورجوا ريعه وعائدة نفعه ، { ظَلَمُوا أَنْفُسُهُمْ } يعني أصحاب الزرع ، عصوا الله ، وتعدّوا حدوده { فَأَهْلَكَتْهُ } يعني فأهلكت الريح التي فيها الصرّ زرعهم ذلك ، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ، ورجاء عائدة نفعه عليهم . يقول تعالى ذكره : فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته حين يلقاه يبطل ثوابها ، ويخيب رجاءه منها . وخرج المثل للنفقة ، والمراد بالمثل : صنيع الله بالنفقة ، فبين ذلك قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صُرّ } فهو كما قد بينا في مثله من قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نارا } وما أشبه ذلك .
فتأويل الكلام : مثل إبطال الله أجر ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، كمثل ريح صرّ . وإنما جاز ترك ذكر إبطال الله أجر ذلك لدلالة آخر الكلام عليه ، وهو قوله : { كَمَثَلِ ريحٍ فِيها صِرٌ } ولمعرفة السامع ذلك معناه .
واختلف أهل التأويل في معنى النفقة التي ذكرها في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هي النفقة المعروفة في الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَياةِ الدّنْيا } قال : نفقة الكافر في الدنيا .
وقال آخرون : بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه مما لا يصدّقه بقلبه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَياةِ الدّنيْا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهْلَكَتْهُ } يقول : مثل ما يقول فلا يقبل منه كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون ، فأصابه ريح فيها صرّ أصابته فأهلكته . فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم .
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل . وقد تقدم بياننا تأويل الحياة الدنيا بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع . وأما الصرّ ، فإنه شدة البرد ، وذلك بُعُصوف من الشمال في إعصار الطّلّ والأنداء في صبيحة معتمة بعقب ليلة مصحية . كما :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن عثمان بن غياث ، قال : سمعت عكرمة يقول : { رِيحٍ فِيها صِرّ } قال : برد شديد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : { رِيحٍ فِيها صِرّ } قال : برد شديد وزمهرير .
حدثنا عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ . عن ابن عباس ، قوله : { رِيحٍ فِيها صِرّ } يقول : برد .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : الصرّ : البرد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { كَمَثلِ رِيحٍ فِيها صِرّ } : أي برد شديد .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في الصرّ : البرد الشديد .
حدثنا محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرّ } يقول : ريح فيها برد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { رِيحٍ فِيها صِرّ } قال : صر باردة أهلكت حرثهم . قال : والعرب تدعوها الضّريب : تأتي الريح باردة فتصبح ضريبا قد أحرق الزرع ، تقول : «قد ضُرب الليلة » أصابه ضريب تلك الصرّ التي أصابته .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر ، عن الضحاك : { رِيحٌ فِيها صِرّ } قال : ريح فيها برد .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم ، من إحباطه ثواب أعمالهم ، وإبطاله أجورها ظلما منه لهم ، يعني : وضعا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله ، بل وضع فعله ذلك في موضعه ، وفعل بهم ما هم أهله ، لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله ، وهم له بالوحدانية دائنون ولأمره متبعون ، ولرسله مصدّقون . بل كان ذلك منهم وهم به مشركون ، ولأمره مخالفون ، ولرسله مكذّبون ، بعد تقدّم منه إليهم أنه لا يقبل عملاً من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له ، والإقرار بنبوّة أنبيائه ، وتصديق ما جاءوهم به ، وتوكيده الحجج بذلك عليهم . فلم يكن بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك بعد الإعذار إليه من إحباط وافر عمله له ظالما ، بل الكافر هو الظالم نفسه لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره ما أوردها به نار جهنم وأصلاها به سعير سقر .