غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

112

ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوده الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله : { مثل ما ينفقون } الآية . قال أكثر المفسرين وأهل اللغة : الصر البرد الشديد . وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد . وفي الصحاح : الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث . وعلى هذا فمعنى الآية : كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر . وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفه محذوفاً بمعنى فيها قرّة صر كما تقول : برد بارد على المبالغة ، أو تكون " في " تجريدية كما يقال : رأيت فيك أسداً أي أنت أسد ، وإن ضيعني فلان ففي الله كافٍ وكافل .

وقيل : الصر السموم الحارة . وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس { فيها صر } قال : فيها نار . وعلى القولين ، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان برداً مهلكاً أو حرّاً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث فيصح التشبية . وهذا في التشبية المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة . ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث . والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله ، ولهذا قيده بقوله : { في هذه الحياة الدنيا } فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاماً . وقيل : مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر ، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلاً للحرث . والظاهر أن الضمير في { ينفقون } عائد إلى جميع الكفار . وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر ، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع ، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيراً كثيراً في المعاد ، لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلاً لآثار تلك الخيرات ، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كبيراً فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف . ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيراً وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين . ولا يبعد أيضاً تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالاً كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله ، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة . وقيل : المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله :{ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل }[ البقرة :188 ] والمراد جميع الانتفاعات . أما فائدة قوله : { ظلموا أنفسهم } وعدم الاقتصار على قوله : { أصابت حرث قوم } فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولا عثر ، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيراً منه في الدنيا أو في الآخرة . فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها ، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلاً .

ويحتمل أن يراد بالظالم ههنا وضع الزرع في غير موضعه . فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعاً . والضمير في { وما ظلمهم } للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة .

/خ120