الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

قوله تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } : " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسمية ، وعائدُها محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي : ينفقونه .

وقوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ } خبرُ المبتدأ ، وعلى هذا الظاهِر أعني تشبيهَ الشيء المنفَق بالريحِ استُشْكِل التشبيهُ لأنَّ المعنى على تشبيهه بالحَرْث أي الزرعِ لا بالريح . وقد أُجيب عن ذلك بأحد أوجه : الأول : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه يقابِلُ الهيئة الاجتماعية بالهيئة الاجتماعية ، ولا يقابلُ الأفراد بالأفراد ، وهذا قد مر تحقيقه أول البقرة عند قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ } [ الآية : 17 ] ، وهذا اختيار الزمخشري .

الثاني : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذَكَر أحدَ المُشَبَّهين وتَرَك ذِكْر الآخر ، وذَكَر أحد المشبهين به وترك ذكر الآخر ، فقد حَذَف مِنْ كلِّ اثنين ما يَدُلُّ عليه نظيرُه ، وقد مَرَّ نظيرُ هذا في البقرة عند قولِه تعالى :

{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } [ الآية : 171 ] .

واختار هذا ابن عطية ، وقال " هذه غايةُ البلاغةِ والإِعجازِ " . الثالث : أنه على حَذْف مضاف : إمَّا من الأول تقديرُه : " مَثَلُ مَهْلِكِ ما ينفقونه " ، وإمَّا من الثاني تقديرُه : كمثل مَهْلِك ريح . وهذا الثاني أظهرُ ؛ لأنه يؤدِّي في الأول إلى تشبيه الشيء المُنْفَقِ المُهْلَكِ بالريح ، وليس المعنى عليه أيضاً ، ففيه عَوْدٌ لِما فُرَّ منه .

وقد ذكر الشيخ التقديرَ المشارَ إليه ، ولم ينبِّه عليه ، اللهم إلا أن يريد ب " مَهْلِك " اسمَ مصدر أي : مثلَ إهلاك ما ينفقون ، ولكن يُحتاج إلى تقديرِ مثل هذا المضاف أيضاً قبل " ريح " تقديره : مَثَلٌ إهلاك ما ينفقون كمثلِ إهلاك ريح . ويجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةٌ ، وحينئذ يكونُ قد شَبَّه إنفاقَهم في عدمِ نفعِه بالريحِ الموصوفةِ بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس .

قوله : { فِيهَا صِرٌّ } في محل جر نعتاً ل " ريح " ، ويجوز أن يكونَ " فيها صِرٌّ " جملةً من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون " فيها " وحدَه هو الصفةَ ، و " صِرُّ " فاعلٌ به ، وجاز ذلك لاعتماد الجار على الموصوف ، وهذا أحسنُ ؛ لأنَّ الأصلَ في الأوصافِ الإِفرادُ ، وهذا قريبٌ منه .

والصِرُّ " قيل : البردُ الشديد المحرق ، قال :

لا يَعْدِلَنَّ أتاوِيُّونَ تضرِبُهم *** نكباءُ صِرٌّ بأصحابِ المُحِلاَّتِ

وقيل : " الصِرُّ " بمعنى الصَّرْصَر ، وهو الشيء البارد ، قالت ليلى الأخيلية :

ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الأَلَدَّ ويَمْلأ ال *** جِفانَ سَدِيفاً يومَ نكباءَ صرصرِ

وأصلُهُ مأخوذٌ من الشَّدَّ والتعقيد ، ومنه : الصُرَّة للعُقْدة ، وأَصَرَّ على كذا : لَزِمه . وقال بعضُهم : " الصِرُّ " صوتُ لهيبِ النار ، يكون في الريح مِنْ : صَرَّ الشيءُ يَصِرُّ صريراً أي : صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروفِ ، ومنه : صرير الباب . قال الزجاج : " والصِرُّ : صوت النار التي في الريح " وإذا عُرِف هذا فإنْ قلنا : الصِرُّ : البردُ الشديد أو هو صوتُ النار أو صوتُ الريح ، فظرفية الريحِ له واضحةٌ ، وإنْ كان الصِرُّ صفةَ الريح كالصرصر فالمعنى :/ فيها قِرَّةٌ صِرٌّ ، كما تقول : برد بارد ، وحُذِف الموصوفُ وقامت الصفةُ مَقَامَه ، أو تكونُ الظرفيةُ مجازاً جُعِل الموصوفُ ظرفاً للصفة كما قال :

1394 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وفي الرحمنِ للضُّعفاء كافِي

ومنه قولُهم : " إنْ ضَيَّعني فلانٌ ففي اللهِ كافٍ " المعنى : الرحمن كافٍ ، واللهُ كافٍ . وهذا فيه بُعْدٌ .

قوله : " أصابَتْ " هذه الجملة في محل جر أيضاً صفةً ل " ريح " ، ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل " صِرّ " لأنه مذكر . وبدأ أولاً بالوصف بالجار لأنه قريب من المفرد ثم بالجملة . هذا إنْ أعربنا " فيها " وحده صفةً ، ورَفَعْنا به " صِر " أمَّا إذا أعربناه خبراً مقدماً و " صِرٌّ " مبتدأ فهما جملة أيضاً .

قوله : " ظلموا " صفة ل " قوم " ، والضمير في " ظلمهم " يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصيَ التي كانت سبباً في إهلاكه . وجَوَّز الزمخشري وغيره أن يعودَ على المنفقين ، وإليه نحا ابنُ عطية ، ورجَّحه بأنَّ أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للردِّ عليهم ولا للتبيين ظلمهِم ، بل لمجردِ التشبيه بهم .

قوله : { وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } العامةُ على تخفيف " لكن " وهي استدراكيةٌ ، و " أنفسَهم " مفعولٌ مقدم ، قُدِّم للاختصاص أي : لم يقع وبالُ ظلمهم إلا بأنفسهم خاصةً لا يتخطَّاهم ، ولأجلِ الفواصل أيضاً . وقرأها بعضهم مشددة ، ووَجْهُها أن يكونَ " أنفسَهم " اسمها ، و " يظلمون " الخبرُ ، والعائدُ من الجملة الخبرية على الاسم محذوفٌ تقديرُه : ولكنَّ ِأنفسَهم يظلمونها ، فحُذِف ، وحَسَّن حذفَه كونُ الفعلِ فاصلة ، فلو ذُكِرَ مفعولُه لفات هذا الغرضُ . وقد خَرَّجه بعضُهم على أن يكون اسمُها ضميرَ الأمر والقصة حُذِف للعلم به ، و " أنفسَهم " مفعولٌ مقدَّمٌ ليظلمون كما تقدَّم ، والجملةُ خبرٌ لها ، وقد رُدَّ هذا بأنَّ حَذْفَ اسمِ هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة كقوله :

إنَّ مَنْ يدخلِ الكنيسةَ يوماً *** يَلْقَ فيها جآذراً وظباءَ

على أن بعضَهم لا يَقْصُره على الضرورة ، مستشهداً بقوله عليه السلام : " إنَّ من أشد الناس عذاباً يوم القيامة المُصَوِّرون " ، قال : " تقديره إنه " ، ويُعْزى هذا للسكائي ، وقد ردَّه بعضهم ، وخَرَّج الحديث على زيادة " مِنْ " والتقدير : إنَّ أشدَّ الناس . والبصريون لا يُجيزون زيادة " من " في مثل هذا التركيبِ لِما عُرِفَ غيرَ مرة إلا الأخفش .