لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

قوله عز وجل : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } قيل أراد نفقة أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل أراد نفقة اليهود على علمائهم ورؤسائهم وقيل : أراد نفقات جميع الكفار وصدقاتهم في الدنيا وقيل : أراد نفقة المرائي الذي لا يريد بما ينفق وجه الله تعالى وذلك لأن إنفاقهم المال إما أن يكون لمنافع الدنيا أو لمنافع الآخرة فإن كان لمنافع الدنيا لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر وان كان لمنافع الآخرة كمن يتصدق ويعمل أعمال البر فإن كان كافراً فإن الكفر محبط لجميع أعمال البر فلا ينتفع بما أنفق في الدنيا لأجل الآخرة وكذلك المرائي الذي لا يريد بما أنفق وجه الله تعالى فإنه لا ينتفع بنفقته في الآخرة ثم ضرب لذلك الإنفاق مثلاً فقال تعالى : { كمثل ريح فيها صر } فيه وجهان : أحدهما وهو قول أكثر المفسرين ، وأهل اللغة إن الصر البرد الشديد وبه قال ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد : والوجه الثاني أن الصر هو السموم الحارة التي تقتل وهو رواية عن ابن عباس وبه قال ابن الأنباري من أهل اللغة وعلى الوجهين فالتشبيه صحيح والمقصود منه حاصل لأنها سواء كان فيها برد فهي مهلكة أو حر فهي مهلكة أيضاً { أصابت } يعني الريح التي فيها صر { حرث قوم } أي زرع قوم { ظلموا أنفسهم } يعني بالكفر والمعاصي ومنع حق الله فيه { فأهلكته } يعني فأهلكت الريح الزرع ومعنى الآية مثل نفقات الكفار في ذهابها وقت الحاجة إليها كمثل زرع أصابته ريح باردة فأهلكته أو نار فأحرقته فلم ينتفع به أصحابه .

فإن قلت الغرض تشبيه ما أنفقوا وأبطال ثوابه وعدم الانتفاع به الحرث الذي هلك بالريح فكيف شبهه بالريح المهلكة للحرث ؟ قلت هو من التشبيه المركب وهو ما حصلت فيه المشابهة بين ما هو المقصود من الجملتين وإن لم تحصل المشابهة بين أجزاء الجملتين فعلى هذا زال الإشكال ومن التشبيه ما حصلت فيه المشابهة بين المقصود من الجملتين وبين أجزاء كل واحدة منهما فإن جعلنا هذا المثل من هذا القسم ففيه وجهان : أحدهما أن يكون التقدير مثل الكفر في إهلاك ما ينفقون كمثل الريح المهلكة للحرث . الوجه الثاني مثل ما ينفقون كمثل مهلك الريح وهو الحرث والمقصود من ضرب هذا المثل هو تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية ولا يبقى منه شيء . وقوله تعالى : { وما ظلمهم الله } يعني بأن لم يقبل نفقاتهم { ولكن أنفسهم يظلمون } يعني أنهم عصوا الله فاستحقوا عقابه فأبطل نفقاتهم وأهلك حرثهم وقيل ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بنفقاتهم مستحقة للقبول .