الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

الصرُّ : الريح الباردة نحو : الصرصر . قال :

لاَ تَعْدِلَنَّ أَتَاويِّينَ تَضْرِبُهُمْ*** نَكْبَاءَ صِرّ بأصْحَابِ الْمَحَلاَّتِ

كما قالت ليلى الأخيلية :

وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلإِ الْ *** جِفَانَ سَدِيفاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرصْرٍ

فإن قلت : فما معنى قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } ؟ قلت : فيه أوجه : أحدهما أنّ الصرَّ في صفة الريح بمعنى الباردة ، فوصف بها القرّة بمعنى فيها قرة صرّ ، كما تقول : برد بارد على المبالغة . والثاني : أن يكون الصر مصدراً في الأصل بمعنى البرد فجيء به على أصله . والثالث : أن يكون من قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل . قال :

وَفِي الرَّحْمنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي***

شبه ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله ، بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاماً . وقيل : هو ما كانوا يتقربون به إلى الله مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم ، لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله . وشبه بحرث { قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } فأهلك عقوبة لهم على معاصيهم ، لأنّ الهلاك عن سخط أشدّ وأبلغ .

فإن قلت : الغرض تشبيه ما أنفقوا في قلة جدواه وضياعه بالحرث الذي ضربته الصر ، والكلام غير مطابق للغرض حيث جعل ما ينفقون ممثلاً بالريح . قلت : هو من التشبيه المركب الذي مر في تفسير قوله : { كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] ويجوز أن يراد : مثل إهلاك ما ينفقون مثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ : «تنفقون ، بالتاء » { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } الضمير للمنفقين على معنى : وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم ، أي : وما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة . وقرئ : «ولكنّ » بالتشديد ، بمعنى ولكنّ أنفسهم يظلمونها هم . ولا يجوز أن يراد : ولكن أنفسهم يظلمون ، على إسقاط ضمير الشأن ، لأنه إنما يجوز في الشعر .