إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

{ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذه الحياة الدنيا } بيانٌ لكيفية عدمِ إغناءِ أموالِهم التي كانوا يعوِّلون عليها في جلب المنافعِ ودفعِ المضارِّ ويعلِّقون بها أطماعَهم الفارغةَ ، و { مَا } موصولةٌ اسميةٌ حُذف عائدُها أي حالُ ما ينفقه الكفرةُ قربةً أو مفاخرةً وسُمعةً أو المنافقون رياءً وخوفاً وقصتُه العجيبةُ التي تجري مجرى المثل في الغرابة { كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي بردٌ شديدٌ فإنه في الأصل مصدرٌ وإن شاع إطلاقُه على الريح الباردةِ كالصَّرْصَر ، وقيل : كلمة في تجريدية كما في قوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب ، الآية 21 ] { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله ، وإنما وُصفوا بذلك لأن الإهلاكَ عن سَخَط أشدُّ وأفظع { فَأَهْلَكَتْهُ } عقوبةً لهم ولم تدَعْ منه أثراً ولا عِثْيَراً والمرادُ تشبيهُ ما أنفقوا في ضياعه وذهابِه بالكلية من غير أن يعودَ إليهم نفعٌ ما بحرْثِ [ قومٍ ] كفارٍ ضربتْه صِرٌّ فاستأصلتْه ولم يبقَ لهم فيه منفعةٌ ما بوجه من الوجوه ، وهو من التشبيه المركبَ الذي مرَّ تفصيلُه في تفسير قولِه تعالى : { كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } ولذلك لم يبالِ بإيلاء كلمةِ التشبيهِ الريحَ دون الحرثِ ، ويجوز أن يرادَ مثَلُ إهلاكِ ما ينفقون كمثَل إهلاكِ ريحٍ أو مثلُ ما ينفقون كمثَل مهلِكِ ريحٍ وهو الحرثُ وقرئ تنفقون { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بما بيَّنه من ضياع ما أنفقوا من الأموال { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } لما أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي ، وتقديمُ المفعولِ لرعاية الفواصلِ لا للتخصيص ، إذ الكلامُ في الفعل باعتبار تعلّقِه بالفاعل لا بالمفعول أي ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسَهم ، وصيغةُ المضارعِ للدَّلالة على التجدد والاستمرارِ ، وقد جُوِّز أن يكون المعنى وما ظلم الله تعالى أصحابَ الحرْثِ بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسَهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبةَ ، ويأباه أنه قد مر التعرُّضُ له تصريحاً ، وقرئ ولكنّ بالتشديد على أن أنفسَهم اسمُها ويظلِمون خبرُها والعائدُ محذوفٌ للفاصلة أي ولكنَّ أنفسَهم يظلِمونها ، وأما تقديرُ ضميرِ الشأن فلا سبيلَ إليه لاختصاصه بالشعر ضرورةً كما في قوله : [ الطويل ]

[ وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ] *** ولكنَّ منْ يُبصِر جفونَك يعشقِ{[125]}


[125]:وهو للمتنبي في ديوانه 2/48 والأشباه والنظائر 8/46 ومغني اللبيب 1/291 والتمثيل به قوله: "ولكن من يبصر جفونك يعشق" حيث حذف اسم لكن والتقدير لكنّك.