البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَثَلِ رِيحٖ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمٖ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (117)

الصر : البرد الشديد المحرق .

وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال :

لا تعدلن إناء بين تضر بهم *** نكباء ضرّ بأصحاب المحلات

وقالت ليلى الأخيلية :

ولم يغلب الخصم الألد ويملأ *** الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر

وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير .

وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر .

وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح .

{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض .

قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم .

وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم .

وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر .

وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين .

قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً .

وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم .

وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى .

وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس .

مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى .

والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه .

والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث .

فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري .

وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين .

وهذا اختيار ابن عطية .

قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } انتهى .

ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون .

أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح .

وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح .

وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال .

وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها .

ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون .

وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع .

قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى .

وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى .

وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : { بل هو ما استعجلتم به ريح } ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً كالريح العقيم .

كما أن الجمع مختص بالرحمة أن { يرسل الرياح مبشرات } { وأرسلنا الرياح لواقح } { يرسل الرياح بشراً } ولذلك روي : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح .

فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة .

فظاهر كون ذلك في الريح .

وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرٍّ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه .

أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة .

كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء .

وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف .

المعنى الرحمن كاف ، والله كاف .

وهذا فيه بعد .

وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح .

بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة .

وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم .

وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم .

وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد .

ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه .

وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل .

وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي .

{ وما ظلمهم الله } جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم .

وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي .

وقال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم .

وأيضاً قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .

يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى .

وهو ترجيح حسن .

وقرئ شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون .

والمعنى : يظلمونها هم .

وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى .

ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن .

وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر .

/خ120