وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال :
لا تعدلن إناء بين تضر بهم *** نكباء ضرّ بأصحاب المحلات
ولم يغلب الخصم الألد ويملأ *** الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر
وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير .
وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر .
وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح .
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض .
قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم .
وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم .
وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر .
وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين .
قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه الله بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً .
وقيل : هو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم .
وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى .
وقال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس .
مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى .
والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه .
والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث .
فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري .
وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين .
قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } انتهى .
ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون .
أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح .
وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح .
وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال .
وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها .
ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون .
وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع .
قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى .
وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى .
وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله : { بل هو ما استعجلتم به ريح } ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً كالريح العقيم .
كما أن الجمع مختص بالرحمة أن { يرسل الرياح مبشرات } { وأرسلنا الرياح لواقح } { يرسل الرياح بشراً } ولذلك روي : « اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح .
فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة .
وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرٍّ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه .
أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة .
كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء .
وقولهم : إن ضيعني فلان ففي الله كاف .
المعنى الرحمن كاف ، والله كاف .
وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح .
بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة .
وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم .
وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد .
ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه .
وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل .
وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي .
{ وما ظلمهم الله } جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم .
وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي .
وقال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم .
وأيضاً قوله : { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى .
وقرئ شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون .
وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى .
ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن .
وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.