قوله تعالى : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا ، فإذا غلبوا أو غُلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم ، فيفشون ويحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيضعفون به قلوب المؤمنين ، فأنزل الله تعالى { وإذا جاءهم } يعني : المنافقين { أمر من الأمن } أي : الفتح والغنيمة ، { أو الخوف } القتل والهزيمة ، ( أذاعوا به ) أشاعوه وأفشوه . قوله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول } إلى رأيه ، ولم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به .
قوله تعالى : { وإلى أولي الأمر منهم } ، أي : ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم .
قوله تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ، أي : يستخرجونه ، وهم العلماء ، أي : علموا ما ينبغي أن يكتم وما ينبغي أن يفشى ، والاستنباط : الاستخراج . يقال : استنبط الماء إذا استخرجه . وقال عكرمة : ( يستنبطونه ) أي : يحرصون عليه ويسألون . وقال الضحاك : يتبعونه ، يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين ، لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم ، { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو .
قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } ، كلكم .
قوله تعالى : { إلا قليلاً } ، فإن قيل : كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكل الشيطان ؟ قيل : هو راجع إلى ما قبله ، قيل : معناه أذاعوا به إلا قليلاً لم يفشه ، وعنى بالقليل المؤمنين ، وهذا قول الكلبي ، واختيار الفراء ، وقال : لأن علم السر إذا ظهر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض ، قيل : لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلاً ، ثم قوله : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان } كلام تام . وقيل : فضل الله الإسلام ، ورحمته : القرآن ، يقول : لولا ذلك لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونزول القرآن ، مثل : زيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سواهما . وفي الآية دليل على جواز القياس ، فإن من العلم ما يدرك بالتلاوة ، والرواية ، وهو النص ، ومنه ما يدرك بالاستنباط ، وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص .
ويمضي السياق يصور حال طائفة أخرى . أو يصف فعلة أخرى لطائفة في المجتمع المسلم : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به . ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم . ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
والصورة التي يرسمها هذا النص ، هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي ، لم تألف نفوسهم النظام ؛ ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر ؛ وفي النتائج التي تترتب عليها ، وقد تكون قاصمة ؛ لأنهم لم يرتفعوا إلى مستوى الأحداث ؛ ولم يدركوا جدية الموقف ؛ وأن كلمة عابرة وفلتة لسان ، قد تجر من العواقب على الشخص ذاته ، وعلى جماعته كلها ما لا يخطر له ببال ؛ وما لا يتدارك بعد وقوعه بحال ! أو - ربما - لأنهم لا يشعرون بالولاء الحقيقي الكامل لهذا المعسكر ؛ وهكذا لا يعنيهم ما يقع له من جراء أخذ كل شائعة والجري بها هنا وهناك ، وإذاعتها ، حين يتلقاها لسان عن لسان . سواء كانت إشاعة أمن أو إشاعة خوف . . فكلتاهما قد يكون لإشاعتها خطورة مدمرة ! - فإن إشاعة أمر الأمن مثلا في معسكر متأهب مستيقظ متوقع لحركة من العدو . . إشاعة أمر الأمن في مثل هذا المعسكر تحدث نوعا من التراخي - مهما تكن الأوامر باليقظة -لأن اليقظة النابعة من التحفز للخطر غير اليقظة النابعة من مجرد الأوامر ! وفي ذلك التراخي قد تكون القاضية ! . . كذلك إشاعة أمر الخوف في معسكر مطمئن لقوته ، ثابت الأقدام بسبب هذه الطمأنينة . وقد تحدث إشاعة أمر الخوف فيه خلخلة وارتباكا ، وحركات لا ضرورة لها لاتقاء مظان الخوف . . وقد تكون كذلك القاضية !
وعلى أية حال فهي سمة المعسكر الذي لم يكتمل نظامه ؛ أو لم يكتمل ولاؤه لقيادته . أو هما معا . . ويبدو أن هذه السمة وتلك كانتا واقعتين في المجتمع المسلم حينذاك ؛ باحتوائه على طوائف مختلفة المستويات في الإيمان ، ومختلفة المستويات في الإدراك ، ومختلفة المستويات في الولاء . . . وهذه الخلخلة هي التي كان يعالجها القرآن بمنهجه الرباني .
والقرآن يدل الجماعة المسلمة على الطريق الصحيح :
ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، لعلمه الذين يستنبطونه منهم .
أي لو أنهم ردوا ما يبلغهم من أنباء الأمن أو الخوف إلى الرسول [ ص ] إن كان معهم ، أو إلى أمرائهم المؤمنين ، لعلم حقيقته القادرون على استنباط هذه الحقيقة ؛ واستخراجها من ثنايا الأنباء المتناقضة ، والملابسات المتراكمة .
فمهمة الجندي الطيب في الجيش المسلم ، الذي يقوده أمير مؤمن - بشرط الإيمان ذاك وحده - حين يبلغ إلى أذنيه خبر ، أن يسارع فيخبر به نبيه أو أميره . لا أن ينقله ويذيعه بين زملائه ؛ أو بين من لا شأن لهم به . لأن قيادته المؤمنة هي التي تملك استنباط الحقيقة ، كما تملك تقدير المصلحة في إذاعة الخبر - حتى بعد ثبوته - أو عدم إذاعته . .
وهكذا كان القرآن يربي . . فيغرس الإيمان والولاء للقيادة المؤمنة ؛ ويعلم نظام الجندية في آية واحدة . . بل بعض آية . . فصدر الآية يرسم صورة منفرة للجندي وهو يتلقى نبأ الأمن أو الخوف ، فيحمله ويجري متنقلا ، مذيعا له ، من غير تثبت ، ومن غير تمحيص ، ومن غير رجعة إلى القيادة . . ووسطها يعلم ذلك التعليم . . وآخرها يربط القلوب بالله في هذا ، ويذكرها بفضله ، ويحركها إلى الشكر على هذا الفضل ، ويحذرها من اتباع الشيطان الواقف بالمرصاد ؛ الكفيل بإفساد القلوب لولا فضل الله ورحمته :
( ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا ) . .
آية واحدة تحمل هذه الشحنة كلها ؛ وتتناول القضية من أطرافها ؛ وتتعمق السريرة والضمير ؛ وهي تضع التوجيه والتعليم ! ! ! ذلك أنه من عند الله . . ( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا ) . .
وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة .
وقد قال مسلم في " مقدمة صحيحه " حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب{[7935]} بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب " الأدب " من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا{[7936]} ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي . وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب{[7937]} عن حفص بن عاصم ، به مرسلا{[7938]} .
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن{[7939]} .
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه " .
وفي الصحيح : " من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن " . {[7940]} ويذكر{[7941]} هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : " لا " . فقلت الله أكبر . وذكر الحديث{[7942]} بطوله .
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه . ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر .
ومعنى قوله : ( يستنبطونه ) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها{[7943]} .
ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم . واستشهد من نصر هذا القول . بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :
أشَمَّ{[7944]} كثير يُدَيِّ النوال{[7945]}*** قليل المَثَالب والقَادحة{[7946]}
{ وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىَ أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِه } وإذا جاء هذه الطائفة المبيتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من الأمن . فالهاء والميم في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ } من ذكر الطائفة المبيتة . يقول جلّ ثناؤه : وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين غازية بأنهم قد أمنوا من عدوّهم بغلبتهم إياهم { أو الخَوْفِ } يقول : أو تخّوفهم من عدوّهم بإصابة عدوّهم منهم { أذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أمراء سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والهاء في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } من ذكر الأمر وتأويله : أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم ، يقال : منه أذاع فلان بهذا الخبر وأذاعه ، ومنه قول أبي الأسود :
أذَاعَ بِه في النّاسِ حتى كأنّهُ ***بعَلْياءَ نارٌ أُوقِدَتْ بثَقُوبِ
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : سارعوا به وأفشوه .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوّهم ، أو أنهم خائفون منهم ، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوّهم أمرهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } يقول : أفشوه وشنعوا به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ إذَاعُوا بِهِ } قال : هذا في الأخبار إذا غزت سرية من المسلمين خُبّر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوّهم كذا وكذا ، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا . فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يخبرهم به . قال ابن جريج : قال ابن عباس : قوله { أذَعُوا بِهِ } قال : أعلنوه وأفشوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أذَاعُوا بِهِ } قال : نشروه . قال : والذين أذاعوا به قوم ، إما منافقون ، وإما آخرون ضعفاء .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أفْشَوْه وشنعوا به ، وهم أهل النفاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ولو ردّوه : الأمر الذي نالهم من عدوّهم والمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أولي أمرهم ، يعني : وإلى أمرائهم ، وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر ، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذوو أمرهم هم الذين يقولون الخبر عن ذلك ، بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بُطُوله ، فيصححوه إن كان صحيحا ، أو يبطلوه إن كان باطلاً . { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به الذين يبحثون عنه ، ويستخرجونه منهم ، يعني : أولي الأمر . والهاء والميم في قوله : { مِنْهُمْ } من ذكر أولي الأمر . يقول : لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه . وكل مستخرج شيئا كان مستترا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب ، فهو له مستنبط ، يقال : استنبطت الركية : إذا استخرجت ماءها ، ونَبَطتها أنبطها ، والنبط : الماء المستنبط من الأرض ، ومنه قول الشاعر :
قَرِيبٌ ثراهُ ما يَنالُ عَدُوّهُ ***لَهُ نَبَطا آبي الهَوَانِ قَطُوبُ
يعني بالنبط : الماء المستنبط .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : ولو سكتوا وردّوا الحديث إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولى أمرهم حتى يتكلم هو به ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } يعني عن الأخبار ، وهم الذين ينقّرون عن الأخبار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لعلمه الذين يَفْحصُون عنه ، ويهمهم ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } : أولي الفقه في الدين والعقل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : يتتبعونه ويتحسسونه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : أخبرنا ليث ، عن مجاهد : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : الذين يسألون عنه ويتحسسونه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ } قال : قولهم : ما كان ؟ ماذا سمعتم ؟
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { الّذِينَ يسْتَنبِطونَهُ } قال : يتحسسونه .
حدثني محمد بن سيعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يقول : لعلمه الذين يتحسسونه منهم .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } قال : يتتبعونه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أذَاعُوا بِه } . . . حتى بلغ : { وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } قال : الولاة الذين يكونون في الحرب عليهم الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر أصدق أم كذب ؟ أباطل فيبطلونه ، أو حقّ فيحقونه ؟ قال : وهذا في الحرب ، وقرأ : { أذَاعُوا بِهِ وَلَوْ } فعلوا غير هذا و{ رَدّوهُ } إلى الله و{ إلى الرّسُولِ وإلى أُولي الأمْرِ مِنْهُمْ } . . . الاَية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ولولا إنعام الله عليكم أيها المؤمنون بفضله وتوفيقه ورحمته ، فأنقذكم مما ابتلى هؤلاء المنافقين به ، الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر : طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيّت طائفة منهم غير الذي تقول ، لكنتم مثلهم ، فاتبعتم الشيطان إلا قليلاً ، كما اتبعه الذين وصف صفتهم . وخاطب بقوله تعالى ذكره : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } الذين خاطبهم بقوله جلّ ثناؤه : { يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانْفِرُوا ثُباتٍ أوِ انْفِرُوا جَمِيعا } .
ثم اختلف أهل التأويل في القليل الذي استثناهم في هذه الاَية ، من هم ، ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم ؟ فقال بعضهم : هم المستنبطون من أولي الأمر ، استثناهم من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ونفي عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : إنما هو لعلمه الذين يستنبطونه منهم ، إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم . وأما قوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } إلا قليلاً .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك قراءة عن سعيد ، عن قتادة : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : يقول : لاتبعتم الشيطان كلكم¹ وأما { إلاّ قَلِيلاً } فهو كقوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ . . . إلاّ قَلِيلاً } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج نحوه ، يعني نحو قول قتادة ، وقال : لعلموه إلا قليلاً .
وقال آخرون : بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة ، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا . ومعنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ، إلا قليلاً منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ } فانقطع الكلام ، وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } فهو في أوّل الاَية يخبر عن المنافقين ، قال : { وَإذَا جاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ } إلا قليلاً ، يعني بالقليل المؤمنين ، يقول الحَمْدُ لله الّذِي أنْزَلَ الكِتَابَ عدلاً قِيما ، ولم يجعل له عوجا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هذه الاَية مقدمة ومؤخرة ، إنما هي : أذاعوا به إلا قليلاً منهم ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير .
وقال آخرون : بل ذلك استثناء من قوله : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } وقالوا : الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الاَخرون همّوا به من اتباع الشيطان ، فعرّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم ، واستثنى الاَخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الاَخرين . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } قال : هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا حدثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان ، إلا طائفة منهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعا . قالوا : وقوله : { إلاّ قَلِيلاً } خرج مخرج الاستثناء في اللفظ ، وهو دليل على الجميع والإحاطة ، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحد من الضلالة ، فجعل قوله : { إلاّ قَليلاً } دليلاً على الإحاطة . واستشهدوا على ذلك بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب :
أشمّ كثيرُ يَدِيّ النّوال ***ِقليلُ المَثالِبِ والقادِحَهْ
قالوا : فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب ، ومعلوم أن معناه : أنه لا مثالب فيه ولا معايب¹ لأن من وصف رجلاً بأن فيه معايب وإن وصف الذي فيه المعايب بالقلة ، فإنما ذمه ولم يمدحه ، ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه . قالوا : فكذلك قوله : { لاتّبَعْتُمْ الشّيْطانَ إلاّ قَلِيلاً } إنما معناه : لاتبعتم جميعكم الشيطان .
وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي قول من قال : عنى باستثناء القليل من الإذاعة¹ وقال : معنى الكلام : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلاً ، ولو ردّوه إلى الرسول .
وإنما قلنا : إن ذلك أولى بالصواب لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا ، وغير جائز أن يكون من قول : { لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ } لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته فغير جائز أن يكون من تباع الشيطان ، وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب ، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب سبيل فنوجّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون : معنى ذلك : لاتبعتم الشيطان جميعا ، ثم زعم أن قوله : { إلاّ قَلِيلاً } دليل على الإحاطة بالجميع . هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل لا وجه له ، وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله : { لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } لأن علم ذلك إذا ردّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم ، استوى في علم ذلك كل مستنبط حقيقة ، فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم وخصوص بعضهم بعلمه مع استواء جميعهم في علمه . وإذ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا ، ودخل هذه الأقوال الثلاثة ما بينا من الخلل ، فبّين أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع ، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من الإذاعة .