قوله تعالى : { خالدين فيها } ، لابثين مقيمين فيها ، { ما دامت السماوات والأرض } ، قال الضحاك : ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما وكل ما علاك وأظلك فهو سماء ، وكل ما استقرت عليه قدمك فهو أرض . قال أهل المعاني : هذا عبارة عن التأييد على عادة العرب ، يقولون لا آتيك ما دامت السماوات والأرض ، ولا يكون كذا ما اختلف الليل والنهار ، يعنون : أبدا .
قوله تعالى : { إلا ما شاء ربك } . اختلفوا في هذين الاستثنائين فقال بعضهم : الاستثناء في أهل الشقاء يرجع إلى قوم من المؤمنين يدخلهم الله النار بذنوب اقترفوها ، ثم يخرجوهم منها فيكون ذلك استثناء من غير الجنس ، لأن الذين أخرجوا من النار سعداء استثناهم الله من جملة الأشقياء ، وهذا كما : أخبرنا عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا حفص بن عمر ، ثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها ، عقوبة ، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته ، فيقال لهم : الجهنميون " .
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي قال : أنا أحمد بن عبد الله النعييمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد أخبرنا يحي عن الحسن بن ذكوان أنبأنا أبو رجاء حدثني عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى عليه وسلم قال " يخرج قوم من النار بشفاعة محمد فيدخلون الجنة ويسمون الجهنميين " وأما الاستثناء في أهل السعادة فيرجع إلى مدة لبثهم في النار قبل دخول الجنة . وقيل : إلا ما شاء ربك من الفريقين من تعميرهم في الدنيا واحتباسهم في البرزخ ما بين الموت والبعث ، قبل مصيرهم إلى الجنة أو النار . يعني : هم خالدون في الجنة أو النار إلا هذا المقدار . وقيل : لا ما شاء ربك : سوى ما شاء ربك ، معناه خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الزيادة على قدر مدة بقاء السماوات والأرض ، وذلك هو الخلود فيها ، كما تقول : لفلان علي ألف إلا الألفين ، أي : سوى الألفين اللتين تقدمتا . وقيل : إلا بمعنى الواو ، أي : وقد شاء ربك خلود هؤلاء في النار وهؤلاء في الجنة ، كقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } [ البقرة-150 ] ، أي : ولا الذين ظلموا . وقيل : معناه لو شاء ربك لأخرجهم منها ولكنه لا يشاء أنه حكم لهم بالخلود . قال الفراء : هذا الاستثناء الله ولا يفعله ، كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه .
هؤلاء وأولئك خالدون حيث هم ( ما دامت السماوات والأرض ) . وهو تعبير يلقي في الذهن صفة الدوام والاستمرار . وللتعبير ظلال . وظل هذا التعبير هنا هو المقصود .
وقد علق السياق هذا الاستمرار بمشيئة الله في كلتا الحالتين . وكل قرار وكل سنة معلقة بمشيئة الله في النهاية . فمشيئة الله هي التي اقتضت السنة وليست مقيدة بها ولا محصورة فيها . إنما هي طليقة تبدل هذه السنة حين يشاء الله :
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : " هذا دائم دوامَ السموات والأرض " ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليلُ والنهار ، وما سمر ابنا سَمير ، وما لألأت العُفْر{[14917]} بأذنابها . يعنون بذلك كلمة : " أبدا " ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } .
قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس ؛ لأنه لا بدّ في عالم الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : تبدل سماء غير{[14918]} هذه السماء ، وأرض غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : لكل جنة سماء وأرض .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماء سماءً .
وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله تعالى : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 128 ] .
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه " زاد المسير " {[14919]} وغيره من علماء التفسير ، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه{[14920]} واختار هو ما نقله عن خالد بن مَعْدَان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سِنَان ، ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا : أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ، حين يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله . كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس ، وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة{[14921]} ، ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها . وهذا الذي عليه كثير من العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة . وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود{[14922]} ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة . وعن أبي مِجْلَز ، والشعبي ، وغيرهما من التابعين . وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة - أقوال غريبة . وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم .
وقال قتادة : الله أعلم بثنياه .
وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [ النساء : 57 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.