الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

قوله تعالى : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " " ما دامت " في موضع نصب على الظرف ، أي دوام السماوات والأرض ، والتقدير : وقت ذلك . واختلف في تأويل هذا ، فقالت . طائفة منهم الضحاك : المعنى ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما والسماء كل ما علاك فأظلك ، والأرض ما استقر عليه قدمك ، وفي التنزيل : " وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء{[8859]} " [ الزمر : 74 ] . وقيل : أراد به السماء والأرض المعهودتين في الدنيا وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار . عن دوام الشيء وتأبيده ، كقولهم : لا آتيك ما جن ليل ، أو سال سيل ، وما اختلف الليل والنهار ، وما ناح الحمام ، وما دامت السماوات والأرض ، ونحو هذا مما يريدون به . طولا من غير نهاية ، فأفهمهم الله تخليد الكفرة بذلك . وإن كان قد أخبر بزوال السماوات . والأرض . وعن ابن عباس أن جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نور العرش ، وأن السماوات والأرض في الآخرة تردان إلى النور الذي أخذتا منه ، فهما دائمتان أبدا في نور العرش .

قوله تعالى : " إلا ما شاء ربك " في موضع نصب ؛ لأنه استثناء ليس من الأول ، وقد اختلف فيه على أقوال عشرة : الأولى : أنه استثناء من قوله : " ففي النار " كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك ، وهذا قول رواه أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما . وإنما لم يقل من شاء ؛ لأن المراد العدد لا الأشخاص ، كقوله : " ما طاب لكم{[8860]} " [ النساء : 3 ] . وعن أبي نضرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إلا من شاء ألا يدخلهم وإن شقوا بالمعصية ) . الثاني : أن الاستثناء إنما هو للعصاة من المؤمنين في إخراجهم بعد مدة من النار ، وعلى هذا يكون قوله : " فأما الذين شقوا " عاما في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من " خالدين " ، قاله قتادة والضحاك وأبو سنان وغيرهم . وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحُمَمَة{[8861]} أخرجوا منها ودخلوا الجنة فيقال هؤلاء الجهنميون ) وقد تقدم هذا المعنى في " النساء " {[8862]} وغيرها . الثالث : أن الاستثناء من الزفير والشهيق ، أي لهم فيها زفير وشهيق إلا ما شاء ربك من أنواع العذاب الذي لم يذكره ، وكذلك لأهل الجنة من النعيم ما ذكر ، وما لم يذكر . حكاه ابن الأنباري . الرابع : قال ابن مسعود : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " لا يموتون فيها ، ولا يخرجون منها " إلا ما شاء ربك " وهو أن يأمر النار فتأكلهم وتفنيهم ، ثم يجدد خلقهم .

قلت : وهذا القول خاص بالكافر والاستثناء له في الأكل ، وتجديد الخلق . الخامس : أن " إلا " بمعنى " سوى " كما تقول في الكلام : ما معي رجل إلا زيد ، ولي عليك ألفا درهم إلا الألف التي لي عليك{[8863]} . قيل : فالمعنى ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك من الخلود . السادس : أنه استثناء من الإخراج ، وهو لا يريد أن يخرجهم منها . كما تقول في الكلام : أردت أن أفعل ذلك إلا أن أشاء غيره ، وأنت مقيم على ذلك الفعل ، فالمعنى أنه لو شاء أن يخرجهم لأخرجهم ، ولكنه قد أعلمهم أنهم خالدون فيها ، ذكر هذين القولين الزجاج عن أهل اللغة ، قال : ولأهل المعاني قولان آخران ، فأحد القولين : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " من مقدار موقفهم على رأس قبورهم ، وللمحاسبة ، وقدر مكثهم في الدنيا ، والبرزخ ، والوقوف للحساب . والقول الآخر : وقوع الاستثناء في الزيادة على النعيم والعذاب ، وتقديره : " خالدين فيها ما دامت السماوات ولأرض إلا ما شاء ربك " من زيادة النعيم لأهل النعيم ، وزيادة العذاب لأهل الجحيم . قلت : فالاستثناء في الزيادة من الخلود على مدة كون السماء والأرض المعهودتين في الدنيا واختاره{[8864]} الترمذي الحكيم أبو عبدالله محمد بن علي ، أي خالدين فيها مقدار دوام السماوات والأرض ، وذلك مدة العالم ، وللسماء والأرض وقت يتغيران فيه ، وهو قوله سبحانه : " يوم تبدل الأرض غير الأرض{[8865]} " [ إبراهيم : 48 ] فخلق الله سبحانه الآدميين وعاملهم ، واشترى منهم أنفسهم وأموالهم بالجنة ، وعلى ذلك بايعهم يوم الميثاق ، فمن وفي بذلك العهد فله الجنة ، ومن ذهب برقبته يخلد في النار بمقدار دوام السماوات والأرض ، فإنما دامتا للمعاملة ، وكذلك أهل الجنة خلود في الجنة بمقدار ذلك ، فإذا تمت هذه المعاملة وقع الجميع في مشيئة الله ، قال الله تعالى : " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين . ما خلقناهما إلا بالحق{[8866]} " [ الدخان : 39 ] فيخلد أهل الدارين بمقدار دوامهما ، وهو حق الربوبية بذلك المقدار من العظمة ، ثم أوجب لهم الأبد في كلتا الدارين لحق الأحدية ، فمن لقيه موحدا لأَحَدِيته بقي في داره أبدا ، ومن لقيه مشركا بأحديته إلها بقي في السجن أبدا ، فأعلم الله العباد مقدار الخلود ، ثم قال : " إلا ما شاء ربك " من زيادة المدة التي تعجز القلوب عن إدراكها لأنه لا غاية لها ، فبالاعتقاد دام خلودهم في الدارين أبدا . وقد قيل : إن " إلا " بمعنى الواو ، قاله الفراء وبعض أهل النظر وهو : الثامن : والمعنى : وما شاء ربك من الزيادة في الخلود على مدة دوام السماوات والأرض في الدنيا . وقد قيل في قوله تعالى : " إلا الذين ظلموا{[8867]} " [ البقرة : 150 ] أي ولا الذين ظلموا . وقال الشاعر{[8868]} :

وكل أخٍ مفارقُه أخُوه *** لعمر أبيك إلا الفَرْقَدَانِ

أي والفرقدان . وقال أبو محمد مكي : وهذا قول بعيد عند البصريين أن تكون " إلا " بمعنى الواو ، وقد مضى في " البقرة " {[8869]} بيانه . وقيل : معناه كما شاء ربك ؛ كقوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف{[8870]} " [ النساء : 22 ] أي كما قد سلف ، وهو : التاسع ، العاشر : وهو أن قوله تعالى : " إلا ما شاء رب " إنما ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام ، فهو على حد قوله تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين{[8871]} " [ الفتح : 27 ] فهو استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كذلك ، كأنه قال : إن شاء ربك ، فليس يوصف بمتصل ولا منقطع ، ويؤيده ويقويه قوله تعالى : " عطاء غير مجذوذ " ونحوه عن أبي عبيد قال : تقدمت عزيمة المشيئة من الله تعالى في خلود الفريقين في الدارين ، فوقع لفظ الاستثناء ، والعزيمة قد تقدمت في الخلود ، قال : وهذا مثل قوله تعالى : " لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين " [ الفتح : 27 ] وقد علم أنهم يدخلونه حتما ، فلم يوجب الاستثناء في الموضعين خيارا ؛ إذ المشيئة قد تقدمت ، بالعزيمة في الخلود في الدارين والدخول في المسجد الحرام ، ونحوه عن الفراء . وقول حادي عشر : وهو أن الأشقياء هم السعداء ، والسعداء هم الأشقياء لا غيرهم ، والاستثناء في الموضعين راجع إليهم ، وبيانه أن " ما " بمعنى " من " استثنى الله عز وجل من الداخلين في النار المخلدين فيها الذين يخرجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بما معهم من الإيمان ، واستثنى من الداخلين في الجنة المخلدين فيها الذين يدخلون النار بذنوبهم قبل دخول الجنة ثم يخرجون منها إلى الجنة . وهم الذين وقع عليهم الاستثناء الثاني ، كأنه قال تعالى : " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " ألا يخلده فيها ، وهم الخارجون منها من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بإيمانهم وبشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهم بدخولهم النار يسمون الأشقياء ، وبدخلهم الجنة يسمون السعداء ، كما روى الضحاك عن ابن عباس إذ قال : الذين سعدوا شقوا بدخول النار ثم سعدوا بالخروج منها ودخولهم الجنة . وقرأ الأعمش وحفص وحمزة والكسائي " وأما الذين سعدوا " بضم السين . وقال أبو عمرو : والدليل على أنه سعدوا أن الأول شقوا ولم يقل أشقوا . قال النحاس : ورأيت علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي " سعدوا " مع علمه بالعربية ! إذ كان هذا لحنا لا يجوز ؛ لأنه إنما يقال : سعد فلان وأسعده الله ، وأسعد مثل أمرض ، وإنما احتج الكسائي بقولهم : مسعود ولا حجة له فيه ؛ لأنه يقال : مكان مسعود فيه ، ثم يحذف فيه ويسمى به . وقال المهدوي : ومن ضم السين من " سعدوا " فهو محمول على قولهم : مسعود وهو شاذ قليل ؛ لأنه لا يقال : سعده الله ؛ إنما يقال : أسعده الله . وقال الثعلبي : " سعدوا " بضم السين أي رزقوا السعادة ، يقال : سعد وأسعد بمعنى واحد وقرأ الباقون " سعدوا " بفتح السين قياسا على " شقوا " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم . وقال الجوهري : والسعادة خلاف الشقاوة ، تقول : منه سعد الرجل بالكسر فهو سعيد ، مثل سلم فهو سليم ، وسعد فهو مسعود ، ولا يقال فيه : مُسْعَد ، كأنهم استغنوا عنه بمسعود . وقال القشيري أبو نصر عبد الرحيم : وقد ورد سعده الله فهو مسعود ، وأسعده الله فهو مسعد ، فهذا يقوي قول الكوفيين وقال سيبويه : لا يقال سعد فلان كما لا يقال شقي فلان ؛ لأنه مما لا يتعدى . " عطاء غير مجذوذ " أي غير مقطوع ، من جذه يجذه أي قطعه ، قال النابغة :

تَجَذُّ السَّلُوقِيَ المُضَاعَفَ نَسْجُه *** وتُوقِدُ بالصِّفَاح نارُ الحُبَاحِبِ{[8872]}


[8859]:راجع ج 15 ص 274.
[8860]:راجع ج 5 ص 12.
[8861]:الحمم: الرماد والفحم وكل ما احترق من النار، والواحدة: حمة.
[8862]:راجع ج 5 ص 332.
[8863]:وعبارة البحر: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك بمعنى سوى تلك الألف.
[8864]:يلاحظ أنه لم يذكر المصنف السابع ولعله هو هذا.
[8865]:راجع ص 382 من هذا الجزء.
[8866]:راجع ج 16 ص 147 و ص 289.
[8867]:راجع ج 2 ص 128.
[8868]:البيت لعمرو ابن معدي كرب.وقيل: لحضرمي بن عامر. ويجوز أن تكون "إلا" هنا بمعنى غير. قال سيبويه: كأنه قال وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، فقد نعت "كلا" بها.
[8869]:راجع ج 2 ص 128.
[8870]:راجع ج 5 ص 103.
[8871]:راجع ج 16 ص 147 و ص 289.
[8872]:البيت للنابغة الذبياني يصف فيه السيوف. ويروى (تقد- ويوقدن). والسلوقي: الدرع المنسوب. إلى سلوق، قرية باليمن. والمضاعف : الذي نسج حلقتين. والصفاح: الحجارة العراض. والحباحب: ذباب له شعاع بالليل، وقيل: نار الحباحب ما اقتدح من شرر النار في الهواء بتصادم حجرين.