جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ{[2328]} السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } ، أي : أبدا دائما لا ينقطع ، والعرب إذا أراد التأبيد قال : دائم دوام السماوات والأرض ، { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } استثناء من الخلود فإنه ليس لبعضهم وهم فساق الأمة خلود وهم الأشقياء من وجه{[2329]} وهو المراد بالاستثناء الثاني{[2330]} فإنهم ليسوا في الجنة مدة عذابهم والتأكيد من مبدأ معين كما ينتقص من الانتهاء ينتقص من الابتداء وهو المنقول عن كثير من السلف{[2331]} أو هو كقولك : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك مع أن عزيمتك على ضربه فعلى هذا الاستثناء في الموضعين لبيان أنه لو أراد عدم خلودهم لقدر لا أنه واجب عليه ويؤيده قوله : " إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ " أو هو من باب " حتى يلج الجمل في سم{[2332]} الخياط " ( الأعراف : 40 ) ، " ولا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " ( الدخان :56 ) على إحدى التأويلات أو المستثنى توقفهم في الموقف أو مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ أو الاستثناء لخروج الكل من النار إلى الزمهرير ومن الجنة إلى المراتب والمنازل{[2333]} الأرفع ، { إن ربك فعال لما يريد } حاكم غير محكوم .


[2328]:قوله تعالى: "خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك" وفي المناوي الكبير على الجامع الصغير ما نصه تنبيه ما ذ كرته آنفا أن من عذاب الكفار في جهنم دائم أبدا ما دلت عليه الآية والأخبار وأطبق عليه جمهور الأمة سلفا و خلفا، ووراء ذلك أقوال يجب تأويلها فمنها ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين ابن عربي أنهم يعذبون فيها مدة ثم تنقلب عليهم وتبقى طبيعة نارية لهم يتلذذون بها لموافقتها لطبيعتهم، فإن الثناء بصدق الوعد لا بصدق الوعيد، بل بالتجاوز، وقال: "فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله" (إبراهيم:47)، ولم يقل وعيده بل قال: "ونتجاوز عن سيئاتهم" (الأحقاف:16) مع أنه توعد على ذلك وأثنى على إسماعيل بأنه كان صادق الوعد وقال في موضع آخر أن أهل النار إذا أدخلوها لا يزالون خائفين مترقبين أن يخرجوا منها فإذا أغلقت عليهم أبوابها اطمأنوا لأنها خلقت على وفق طباعهم، قال الحافظ ابن القيم: وهذا في طرف أي جهة والمعتزلة القائلون بأنه يجب على الله تعذيب من توعده بالعذاب في طرف آخر فأولئك عندهم لا ينجو من النار من دخلها أبدا والقولان مخالفان لما علم بالاضطرار أن الرسول جاس به وأخبر به عن الله، ومنهما قول جميع لنار تفني فإنه تعالى جعل لها أمدا تنتهي إليه ثم يزول عذابها لهذه الآية، وقوله تعالى: "لابثين فيه أحقابا" (النبأ:23) قال هؤلاء: وليس في القرآن دلالة على بقاء النار وعدم فنائها إنما الذي فيه أن الكفار خالدين فيها وأنهم غير خارجين منها وأنه لا يفتر عنهم عذابها وأنهم لا يموتون وأن عذابهم فيها مقيم وأنه غرام لازم و هذا لا نزاع فيه من الصحابة والتابعين، إنما النزاع في أمر آخر وهو أن النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء وأما كون الكفار لا يخرجون منها ولا يدخلون الجنة فلم يختلف فيه أحد من أهل السنة، وفقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه القول بفنائها عن جمع من الصحابة والتابعين وقد نصر هذا القول ابن القيم كشيخه وابن تيمية وهو مذهب متروك وقول مهجور لا يصار إليه ولا يعول عليه، وقد أول ذلك كله الجمهور وأجابوا عن الآيات المذكورة بنحو عشرين وجها وعما نقل عن أولئك الصحب بأن معناه فيها أحد من عصاة المؤمنين أما مواضع الكفار فهي ممتلئة منهم لا يخرجون عنها أبدا كما ذكره الله في آيات كثيرة انتهى كلامه، قلت و بالله التوفيق: أخرج ابن المنذر عن عمر قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج [موضع بالبادية بها رمل] لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. وروى عبد بن حميد بإسناد رجاله ثقات عن عمر نحوه وأخرج ابن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد و قرأ "فأما الذين شقوا" وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن لآية أرجى لأهل النار من هذه الآية "خالدين فيها" إلخ، قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليه زمان تخفق أبوابها، وروى أحمد عن ابن عمر بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد وحكاه البغوي وغيره عن أبي هريرة وغيره وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرنا وأسرعها خرابا، وعن قتادة قال: الله أعلم بثنياه على ما وقعت وقد روى عن جماعة من السلف مثل ما ذكره ابن مسعود وعمر و أبو هريرة كابن عباس وابن عمر وجابر وأبي سعيد من الصحابة وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما من التابعين وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي وإسناده ضعيف، وقد ثبت بذلك صحة ما نقله شيخ الإسلام بن تيمية عن هؤلاء وانتصره الحافظ ابن القيم ووضح وهن ما قاله ابن حجر والمناوي عليهما وإن كان لاشك في أن الراجح هو الأول، ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة وفي السكوت عنه غنى فقال: ولا يخدعنك قول المجبرة أن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله تعالى لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو وليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، ثم قال: وأقول ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث انتهى. قال الشوكاني: وأقول أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار فالقائل بذلك يا مسكين رسول لله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة، وكما صح عنه في غيرها من طرف جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر فما لك والطعن على قوم ما عرفوا ما جهلته وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة، و أي مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثير كما ذهب إلى ذلك، وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف، وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم فلا مناداة ولا مخالفة، وأي مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة فالاستثناء الأول يحمل على معنى (إلا ما شاء ربك) من خرج العصاة من هذه الأمة من النار، والاستثناء الثاني يحمل على معنى إلا ما شاء ربك من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم وذلك لتأخر دخولهم إليها مقدار المدة التي لبثوا فيها في النار، وقد قال بهذا من أهل العلم من قدمنا ذكره وبه قال ابن عباس حبر الأمة، وأما الطعن على صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحافظ سنته وعابد الصحابة عبد الله بن عمر رضي الله عنه فإلى أين يا محمود أتدري ما صنعت وفي أي واد وقعت وعلى أي جنب سقطت ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان و تتناول نجوم السماء بيدك القصيرة ورجلك العرجاء أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف والتكلم بما لا تدري فيا لله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه/12 فتح البيان.
[2329]:والسعداء من وجه، لأنهم أشقياء لعصيانهم سعداء بإيمانهم /12.
[2330]:أي: في قوله: "وأما الذين سعدوا" إلخ./12.
[2331]:رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وهو قول الضحاك وقتادة وغيرهما/12.
[2332]:كأنه قال هم مخلدون في الجنة أو النار إلا أن يشاء الله خروجهم ومشيئة الله منتف بموجب وعده فخروجهم محال هذا ما في المنهية، وفي الوجيز بعد نقل هذا القول ولذلك قال: (ربك فعال لما يريد) هذا وباقي التوجيهات تمحلات علمتها إن تأملت/12.
[2333]:وفيه تمحل؛ لأن المنازل الأرفع ليست بخارجة من الجنة/12 وجيز.