وقوله تعالى : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول ، بخلافِ هنا .
قوله : { مَا دَامَتِ } " ما " مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و " دام " هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت .
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً ، أحدها : وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : " فإنْ قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء ؟ قلت : هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه ، بل يُعَذَّبون بالزمهرير ، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ،
الثاني : أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله : " خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ " والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها .
الثالث : أنه مِنْ قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ، أي : إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة ، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة ، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما ، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه ؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها .
قال الشيخ : يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحابَ الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة " .
الرابع : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ .
الخامس : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو " خالدين " ، وعلى هذين القولين تكون " ما " واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك ، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] والمراد ب " ما " حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً .
السادس : قال ابن عطية : " قيل : إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط ، كأنه قال : إنْ شاء اللَّه ، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع " .
السابع : هو استثناءٌ من طول المدة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره ، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } . وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة ، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى ، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين ، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود .
الثامن : أن " إلا " حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك .
التاسع : أن الاستثناءَ منقطعٌ ، فيقدَّر ب " لكن " أو ب " سوى " ، ونَظَّروه بقولك : " لي عليك ألفا درهم ، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك " بمعنى سوى تلك ، فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك . وقيل :سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه .
العاشر : أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا .
الحادي عشر : أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر .
الثالث عشر : أنه استثناءٌ من قوله : " ففي النار " كأنه قال : إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر .
الرابع عشر : أنَّ " إلا ما شاء " بمنزلة كما شاء ، قيل : كقوله : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما قَدْ سَلَفَ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.