الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

وقوله تعالى : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجةَ إلى قولِهم مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله { فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ؛ لأنَّ الخلودَ بعد الدخول ، بخلافِ هنا .

قوله : { مَا دَامَتِ } " ما " مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و " دام " هنا تامةٌ لأنها بمعنى بَقِيت .

قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } فيه أقوال كثيرة منتشرة لخّصتها في أربعةَ عشرَ وجهاً ، أحدها : وهو الذي ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : " فإنْ قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } وقد ثَبَتَ خلودُ أهلِ الجنة والنار في الأبد مِنْ غير استثناء ؟ قلت : هو استثناء مِن الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أنَّ أهل النار لا يُخَلَّدون في عذابها وحدَه ، بل يُعَذَّبون بالزمهرير ، وبأنواعٍ أُخَرَ من العذاب ، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سُخْط اللَّه عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبرُ منه كقوله : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] ،

107

الثاني : أنه استثناءٌ من الزمان الدالِّ عليه قوله : " خالدين فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ " والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه اللَّه فلا يُخَلَّدون فيها .

الثالث : أنه مِنْ قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ، أي : إلا الزمان الذي شاءَه اللَّهُ فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي يَفْصِل اللَّهُ فيه بين الخلق يومَ القيامة إذا كان الاستثناءُ مِن الكون في النار أو في الجنة ، لأنه زمانٌ يخلو فيه الشقيُّ والسعيدُ مِنْ دخول النار والجنة ، وأمَّا إن كان الاستثناءُ مِنْ الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمانُ المستثنى هو الزمان الذي فات أهلَ النارِ العصاةَ من المؤمنين الذي يَخْرجون من النار ويَدْخلون الجنة فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا المعنى مَرْوِيٌّ عن قتادة والضحاك وغيرهما ، والذين شَقُوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرفِ الأشقياء العُصاة ممكنٌ ، وأمَّا حقُّ الطرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويلُ فيه ؛ إذ ليس منهم مَنْ يدخلُ الجنةَ ثم لا يُخَلَّد فيها .

قال الشيخ : يمكن ذلك/ باعتبار أن يكونَ أريد الزمان الذي فاتَ أهلَ النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحابَ الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخُلِّدوا فيها صَدَقَ على العصاة المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدوا في الجنة تخليدَ مَنْ دخلها لأولِ وَهْلة " .

الرابع : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ؛ لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضميرَ المبتدأ .

الخامس : أنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الحال وهو " خالدين " ، وعلى هذين القولين تكون " ما " واقعةً على مَنْ يعقل عند مَنْ يرى ذلك ، أو على أنواعٍ مَنْ يعقل كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 3 ] والمراد ب " ما " حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرفِ أهل النار ، وأمَّا في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحابُ الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأولِ وهلة ولا خُلِّدوا فيها خلودَ مَنْ دَخَلها أولاً .

السادس : قال ابن عطية : " قيل : إنَّ ذلك على طريقِ الاستثناء الذي نَدَبَ الشارعُ إلى استعماله في كل كلامٍ فهو كقولِه : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط ، كأنه قال : إنْ شاء اللَّه ، فليس يحتاج أن يُوْصَفَ بمتصل ولا منقطع " .

السابع : هو استثناءٌ من طول المدة ، ويروى عن ابن مسعود وغيره ، أنَّ جهنمَ تخلو مِن الناس وتَخْفِق أبوابُها فذلك قولُه : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } . وهذا مردودٌ بظواهر الكتابِ والسنة ، وما ذكرته عن ابن مسعود فتأويله أنَّ جهنم هي الدَّرَك الأَعْلى ، وهي تَخْلو من العُصاة المؤمنين ، هذا على تقديرِ صحةِ ما نُقِل عن ابن مسعود .

الثامن : أن " إلا " حرفُ عطفٍ بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاءَ ربُّك زائداً على ذلك .

التاسع : أن الاستثناءَ منقطعٌ ، فيقدَّر ب " لكن " أو ب " سوى " ، ونَظَّروه بقولك : " لي عليك ألفا درهم ، إلا الألفَ التي كنت أسلفتك " بمعنى سوى تلك ، فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربك زائداً على ذلك . وقيل :سوى ما أعدَّ لهم مِنْ عذابٍ غيرِ عذابِ النار كالزَّمْهرير ونحوِه .

العاشر : أنه استثناءٌ من مدة السماوات والأرض التي فَرَطَت لهم في الحياة الدنيا .

الحادي عشر : أنه استثناءٌ من التدرُّج الذي بين الدنيا والآخرة .

الثاني عشر : أنه استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولُهم إنما هو زُمَراً بعد زُمَر .

الثالث عشر : أنه استثناءٌ من قوله : " ففي النار " كأنه قال : إلا ما شاء ربُّك مِنْ تأخُّر قوم عن ذلك ، وهذا القولُ مرويٌّ عن أبي سعيد الخدري وجابر .

الرابع عشر : أنَّ " إلا ما شاء " بمنزلة كما شاء ، قيل : كقوله : { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] ، أي : كما قَدْ سَلَفَ .