فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ إِلَّا مَا شَآءَ رَبُّكَۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٞ لِّمَا يُرِيدُ} (107)

{ خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض } أي : مدّة دوامهما .

وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت ، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأييد عذاب الكفار في النار ، وعدم انقطاعه عنهم ، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا ، فقالت طائفة : إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء ، قالوا : هو دائم ما دامت السموات والأرض ، ومنه قولهم : لا آتيك ما جنّ ليل ، وما اختلف الليل والنهار ، وما ناح الحمام ونحو ذلك . فيكون معنى الآية : أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له . وقيل : إن المراد : سموات الآخرة وأرضها ، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا ، وهي دائمة بدوام دار الآخرة ، وأيضاً لا بدّ لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم ، وهما أرض وسماء .

قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال : الأوّل : أنه من قوله : { فَفِي النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك . روى هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري . الثاني : أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين ، وأنهم يخرجون بعد مدّة من النار ، وعلى هذا يكون قوله سبحانه : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } عاماً في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من خالدين ، وتكون ما بمعنى من ، وبهذا قال قتادة ، والضحاك ، وأبو سنان ، وغيرهم .

وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد ، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم . الثالث : أن الاستثناء من الزفير والشهيق : أي لهم فيها زفير وشهيق { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق ، قاله ابن الأنباري . الرابع أن معنى الاستثناء : أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض ، لا يموتون إلا ما شاء ربك ، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا ، ثم يجدّد الله خلقهم ، روي ذلك عن ابن مسعود . الخامس : أن إلا بمعنى سوى ، والمعنى : ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود ، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج . السادس : ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك : والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك ، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا المدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزماً ؛ وقد حكي هذا القول الزجاج أيضاً . السابع : أن المعنى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في [ قبورهم ] وللحساب ، حكاه الزجاج أيضاً . الثامن : أن المعنى : خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم ؛ حكاه أيضاً الزجاج ، واختاره الحكيم الترمذي . التاسع : أن إلا بمعنى الواو ، قاله الفراء ؛ والمعنى : وما شاء ربك من الزيادة ، قال مكي : وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو . العاشر : أن إلا بمعنى الكاف ، والتقدير : كما شاء ربك ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } أي : كما قد سلف . الحادي عشر : أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام ، فهو على حدّ قوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله آمِنِينَ } روي نحو هذا عن أبي عبيد ، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم . وقد نوقش بعضها بمناقشات ، ودفعت بدفوعات . وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام .

/خ108