قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } . أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني ، أخبرنا محمد بن يعقوب ، أنا ابن المنادي ، أنا يونس أنا يعقوب القمي عن جعفر بن المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت ، قال وما الذي أهلكك ؟ قال : حولت رحلي البارحة ، فلم يرد عليه شيئاً ، فأوحى الله إليه ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) يقول أدبر وأقبل واتق الدبر والحيضة . أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أخبرنا أحمد بن الحسين الحيري ، أنا صاحب بن أحمد الطوسي ، أنا عبد الرحيم بن منيب ، أنا ابن عيينة ، عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : أن الولد يكون أحول ، فنزلت ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . وروى مجاهد عن ابن عباس قال : كان من شأن أهل الكتاب أن لا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يتلذذون منهن مقبلات ، ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرت عليه وقالت : إنا كنا نؤتى على حرف ، فإن شئت فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، حتى سرى أمرهما ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ( نساؤكم حرث لكم ) الآية يعني موضع الولد ( فاتوا حرثكم أنى شئتم ) مقبلات ومدبرات ومستلقيات " وأنى " حرف استفهام يكون سؤالاً عن الحال والمحل ، معناه : كيف شئتم وحيث شئتم ، بعد أن يكون في صمام واحد ، وقال عكرمة ( أنى شئتم ) إنما هو الفرج ، ومثله عن الحسن ، وقيل ( حرث لكم ) أي مزرع لكم ، ومنبت للولد ، بمنزلة الأرض التي تزرع ، وفيه دليل على تحريم الأدبار ، لأن محل الحرث و الزرع هو القبل لا الدبر . وقال سعيد بن المسيب هذا في العزل ، يعني إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا وسئل ابن عباس عن العزل فقال : حرثك إن شئت فأعطش ، وإن شئت فأرو ، وروى عنه أنه قال : تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الجارية ، وبه قال أحمد وكره جماعة العزل وقال : هو الوأد الخفي ، وروى عن مالك عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر الصحف فقرأ هذه الآية ( نساؤكم حرث لكم ) فقال : أتدري فيم نزلت هذه الآية ؟ قلت لا قال : نزلت في رجل أتى امرأته في دبرها ، فشق ذلك عليه فنزلت هذه الآية . ويحكى عن مالك إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه ، وروي عن عبد الله بن الحسن أنه لقي سالم بن عبد الله فقال له : يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن عبد الله أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النساء في أدبارهن ؟ فقال : كذب العبد وأخطأ ، إنما قال عبد الله : يؤتون في فروجهن من أدبارهن ، و الدليل على تحريم الأدبار ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد بن الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أخبرنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أخبرنا الشافعي ، أنا عمر محمد بن علي بن شافع أخبرني عبد الله بن علي بن السائب عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح عن خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " في أي الحرمتين أو في أي الحززتين ، أي من دبرها في قبلها ، فنعم أو من دبرها في دبرها فلا ، فإن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا عبد الله الحسين بن محمد الحافظ ، أنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، أخبر محمد ابن عبد الله الحضرمي أنا عبد الله بن أبان ، أنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن مسلم بن خالد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأته في دبرها " .
قوله تعالى : { وقدموا لأنفسكم } . قال عطاء : التسمية عند الجماع . قال مجاهد : ( وقدموا لأنفسكم ) يعني إذا أتى أهله فليدع .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا عثمان بن أبي شيبة ، أنا جرير عن منصور عن سالم عن كريب عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً " .
وقيل ( قدموا لأنفسكم ) يعني : طلب الولد .
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الحرقي ، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني ، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري ، أنا أحمد بن علي الكشميهني ، أنا علي بن حجر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
وقيل : هو التزوج بالعفائف ليكون الولد صالحاً .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا مسدد ، أنا يحيى عن عبد الله حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها و لجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " .
وقيل : معنى الآية تقديم الإفراط .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم " .
وقال الكلبي والسدي : ( وقدموا لأنفسكم ) يعني الخير ، والعمل الصالح بدليل سياق الآية .
قوله تعالى : { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } . صائرون إليه فيجزيكم بأعمالكم .
وفي هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه :
( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ) . .
وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب ، وإلى أهدافها واتجاهاتها . نعم ! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه . وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع . كقوله تعالى : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . وقوله : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب . أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث . لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء . وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون . ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث :
وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف ، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى ؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم . واستيقنوا من لقاء الله ، الذي يجزيكم بما قدمتم :
( وقدموا لأنفسكم . واتقوا الله . واعلموا أنكم ملاقوه ) . .
ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله ، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث ، فكل عمل للمؤمن خير ، وهو يتجه فيه إلى الله :
هنا نطلع على سماحة الإسلام ، الذي يقبل الإنسان كما هو ، بميوله وضروراته ، لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر ؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها ؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها ! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها ، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد . يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا ، وبمشاعر دينية أخيرا ؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف ؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة ، وحركة واحدة ، واتجاه واحد ، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته ، خليفة الله في أرضه ، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات . . وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة . وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق ، ويشقى الإنسان فردا وجماعة . والله يعلم وأنتم لا تعلمون . .
{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنّىَ شِئْتُمْ وَقَدّمُواْ لأنْفُسِكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوَاْ أَنّكُمْ مّلاَقُوهُ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : نساؤكم مزدرع أولادكم ، فأتوا مزدرعكم كيف شئتم ، وأين شئتم . وإنما عنى بالحرث المزدَرَع ، والحرث هو الزرع ، ولكنهن لما كنّ من أسباب الحرث جعلن حرثا ، إذ كان مفهوما معنى الكلام . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ قال : منبت الولد .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أما الحرث فهي مزرعة يحرث فيها .
القول في تأويل قوله تعالى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
يعني تعالى ذكره بذلك : فانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى . والإتيان في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : أنّى شِئْتُمْ فقال بعضهم : معنى أنّى : كيف . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : يأتيها كيف شاء ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : ائتها أنى شئت مقبلة ومدبرة ، ما لم تأتها في الدبر والمحيض .
حدثنا عليّ بن داود قال : حدثنا أبو صالح . قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يعني بالحرث : الفرج ، يقول : تأتيه كيف شئت مستقبلة ومستدبرة وعلى أيّ ذلك أردت بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره ، وهو قوله : فأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللّهُ .
3حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : يأتيها كيف شاء ما لم يعمل عمل قوم لوط .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن ليث ، عن مجاهد : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : يأتيها كيف شاء ، واتّق الدبر والحيض .
حدثني عبيد الله بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، قال : ثني يزيد أن ابن كعب كان يقول : إنما قوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يقول : ائتها مضطجعة وقائمة ومنحرفة ومقبلة ومدبرة كيف شئت إذا كان في قُبُلها .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن مرة الهمداني ، قال : سمعته يحدّث أن رجلاً من اليهود لقي رجلاً من المسلمين ، فقال له : أيأتي أحدكم أهله باركا ؟ قال : نعم . قال : فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فنزلت هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يقول : كيف شاء بعد أن يكون في الفرج .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ إن شئت قائما أو قاعدا أو على جنب إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيض ، ولا يتعدّى ذلك إلى غيره .
حدثنا موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ ائت حرثك كيف شئت من قبلها ، ولا تأتيها في دبرها . أنّى شِئْتُمْ قال : كيف شئتم .
3حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا عمرو بن الحرث ، عن سعيد بن أبي هلال أن عبد الله بن عليّ حدثه : أنه بلغه أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يوما ورجل من اليهود قريب منهم ، فجعل بعضهم يقول : إني لاَتي امرأتي وهي مضطجعة ، ويقول الاَخر : إني لاَتيها وهي قائمة ، ويقول الاَخر : إني لاَتيها على جنبها وباركة فقال اليهودي : ما أنتم إلا أمثال البهائم ، ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة . فأنزل الله تعالى ذكره : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فهو القبل .
وقال آخرون : معنى : أنّى شِئْتُمْ من حيث شئتم ، وأيّ وجه أحببتم . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : حدثنا ابن أبي فديك ، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يكره أن تؤتى المرأة في دبرها ويقول : إنما الحرث من القبل الذي يكون منه النسل والحيض . وينهى عن إتيان المرأة في دبرها ويقول : إنما نزلت هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يقول : من أيّ وجه شئتم .
3حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن واضح ، قال : حدثنا العتكي ، عن عكرمة : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : ظهرها لبطنها غير معاجَزَة ، يعني الدبر .
3حدثنا عبيد الله بن سعد ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن يزيد ، عن الحرث بن كعب ، عن محمد بن كعب ، قال : إن ابن عباس كان يقول : اسق نباتك من حيث نباته .
3حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يقول : من أين شئتم . ذكر لنا والله أعلم أن اليهود قالوا : إن العرب يأتون النساء من قبل أعجازهنّ ، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول فأكذب الله أحدوثتهم ، فقال : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال : يقول : ائتوا النساء في ( غير ) أدبارهن على كل نحو . قال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : تذاكرنا هذا عند ابن عباس ، فقال ابن عباس : ائتوهن من حيث شئتم مقبلة ومدبرة فقال رجل : كأن هذا حلال . فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا ، وأنكره ، كأنه إنما يريد الفرج مقبلة ومدبرة في الفرج .
وقال آخرون : معنى قوله : أنّى شِئْتُمْ متى شئتم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن حسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ يقول : متى شئتم .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا أبو صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، وهو عمار الدهني ، عن سعيد بن جبير أنه قال : بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس ، أتاه رجل فوقف على رأسه ، فقال : يا أبا العباس أو يا أبا الفضل ألا تشفيني عن آية المحيض ؟ فقال : بلى فقرأ : وَيَسألُونَكَ عَنِ المَحِيض حتى بلغ آخر الآية ، فقال ابن عباس : من حيث جاء الدم من ثَمّ أمرت أن تأتي ، فقال له الرجل : يا أبا الفضل كيف بالآية التي تتبعها : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ ؟ فقال : إي ويحك وفي الدبر من حرث ؟ لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا اشتغل من ههنا جئت من ههنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أين شئتم ، وحيث شئتم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن نافع ، قال : كان ابن عمر إذا قرىء القرآن لم يتكلم . قال : فقرأت ذات يوم هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ فقال : أتدري فيمن نزلت هذه الآية ؟ قلت : لا . قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن .
حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم ، قال : حدثنا أبو عمر الضرير ، قال : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، صاحب الكرابيسي ، عن ابن عون ، عن نافع ، قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف ، إذ تلا هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ فقال : أن يأتيها في دبرها .
3465حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا عبد الملك بن مسلمة ، قال : حدثنا الدراورديّ ، قال : قيل لزيد بن أسلم : إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن فقال زيد : أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله .
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر ، قال : ثني عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس ، أنه قيل له : يا أبا عبد الله إن الناس يروون عن سالم : «كذب العبد أو العلج على أبي » ، فقال مالك : أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر مثل ما قال نافع . فقيل له : إن الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر ، فقال له : يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري ، فنحمّض لهن ؟ فقال : وما التحميض ؟ قال : الدبر فقال ابن عمر : أف أف ، يفعل ذلك مؤمن ؟ أو قال مسلم . فقال مالك : أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع .
3حدثني محمد بن إسحاق ، قال : أخبرنا عمرو بن طارق ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن موسى بن أيوب الغافقي ، قال : قلت لأبي ماجد الزيادي : إن نافعا يحدّث عن ابن عمر : في دبر المرأة فقال : كذب نافع ، صحبت ابن عمر ونافع مملوك ، فسمعته يقول : ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا .
3حدثني أبو قلابة قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : في الدبر .
3حدثني أبو مسلم ، قال : حدثنا أبو عمر الضرير ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال حدثنا روح بن القاسم ، عن قتادة قال : سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهنّ ، فقال : هل يفعل ذلك إلا كافر قال : روح : فشهدت ابن أبي مليكة يسئل عن ذلك ، فقال : قد أردته من جارية لي البارحة فاعتاص عليّ ، فاستعنت بدهن أو بشحم . قال : فقلت له : سبحان الله أخبرنا قتادة أن أبا الدرداء قال : هل يفعل ذلك إلا كافر فقال : لعنك الله ولعن قتادة فقلت : لا أحدّث عنك شيئا أبدا ، ثم ندمت بعد ذلك .
واعتلّ قائلو هذه المقالة لقولهم بما :
3حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى ، عن سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر : أن رجلاً أتى امرأته في دبرها ، فوجد في نفسه من ذلك ، فأنزل الله : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرني ابن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنكر الناس ذلك وقالوا : أثفرها فأنزل الله تعالى ذكره : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
وقال آخرون : معنى ذلك : ائتوا حرثكم كيف شئتم ، إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا الحسن بن صالح ، عن ليث ، عن عيسى بن سنان ، عن سعيد بن المسيب : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن زائدة بن عمير ، عن ابن عباس قال : إن شئت فاعزل ، وإن شئت فلا تعزل .
وأما الذين قالوا : معنى قوله : أنّى شِئْتُمْ كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج والقبل ، فإنهم قالوا : إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قبل أدبارهن . قالوا : وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من أن معنى ذلك على ما قلنا .
حدثني به أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، قال : عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها ، حتى انتهى إلى هذه الآية : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ فقال ابن عباس : إن هذا الحيّ من قريش ، كانوا يشرحون النساء بمكة ، ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات . فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار ، فذهبوا ليفعلوا بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة ، فأنكرن ذلك وقلن : هذا شيء لم نكن نؤتى عليه فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فباركة وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث ، يقول : ائت الحرث من حيث شئت .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابرا يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول ، فأنزل الله تعالى ذكره : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكَمْ أنّى شِئْتُمْ .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا الثوري ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : قالت اليهود : إذا أتى الرجل امرأته في قبلها من دبرها وكان بينهما ولد كان أحول ، فأنزل الله تعالى ذكره : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتْوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالت : تزوج رجل امرأة ، فأراد أن يُجَبيها ، فأبت عليه وقالت : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت أم سلمة : فذكرت ذلك لي . فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أرْسِلي إلَيْها » فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : نِسَاؤكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ «صِماما واحدا ، صماما واحدا » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان بن عبد الله بن عثمان ، عن ابن سابط ، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن أمّ سلمة ، قالت : قدم المهاجرون فتزوّجوا في الأنصار ، وكانوا يجبّون ، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك ، فقالت امرأة لزوجها : حتى آتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك . فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستحيت أن تسأله ، فسألتُ أنا . فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليها : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُتمْ «صِماما واحدا صماما واحدا » .
حدثني أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة بنت عبد الرحمن ، عن أم سلمة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحوه .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عبد لله بن عثمان بن خثيم ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن حفصة ابنة عبد الرحمن ، عن أمّ سلمة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ قال : «صِماما واحدا ، صِماما واحِدا » .
حدثني محمد بن معمر البحراني ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي ، قال : ثني وهيب ، قال : ثني عبد الله بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن سابط قال : قلت لحفصة : إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي منك أن أسألك . قالت : سل يا بنيّ عما بدا لك قلت : أسألك عن غشيان النساء في أدبارهن ؟ قالت : حدثتني أم سلمة ، قالت : كانت الأنصار لا تجبّي ، وكان المهاجرون يُجبّون ، فتزوّج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار . ثم ذكر نحو حديث أبي كريب ، عن معاوية بن هشام .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن ابن المنكدر : قال : سمعت جابر بن عبد الله ، يقول : إن اليهود كانوا يقولون : إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول ، فنزلت نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ .
حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي ، قال : حدثنا الحسن بن موسى ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء عمر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت قال : «وَما الّذِي أهْلَكَكَ ؟ » قال : حوّلت رحلي الليلة . قال : فلم يردّ عليه شيئا ، قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ «أقْبِلْ وأَدْبِرَ ، واتّقِ الدّبُرَ والحَيْضَةَ » .
3حدثنا زكريا بن يحيى المصري ، قال : حدثنا أبو صالح الحراني ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب أن عامر بن يحيى أخبره عن حنش الصنعاني ، عن ابن عباس : أن ناسا من حمير أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء ، فقال رجل منهم : يا رسول الله إني رجل أحبّ النساء ، فكيف ترى في ذلك ؟ فأنزل الله تعالى ذكره في سورة البقرة بيان ما سألوا عنه ، وأنزل فيما سأل عنه الرجل : نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ائْتِها مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً إذَا كانَ ذَلِكَ فِي الفَرْجِ » .
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : معنى قوله أنّى شِئْتُمْ من أيّ وجه شئتم ، وذلك أنّ أنّى في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدىء بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب ، فكأن القائل إذا قال لرجل : أنى لك هذا المال ؟ يريد من أيّ الوجوه لك ، ولذلك يجيب المجيب فيه بأن يقول : من كذا وكذا ، كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا في مسألته مريم : أنّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدَ اللّهِ وهي مقاربة أين وكيف في المعنى ، ولذلك تداخلت معانيها ، فأشكلت «أنى » على سامعها ومتأوّلها حتى تأوّلها بعضهم بمعنى أين ، وبعضهم بمعنى كيف ، وآخرون بمعنى متى ، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات . وذلك أن «أين » إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال ، وإنما يستدلّ على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها . ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال : أين مالك ؟ لقال بمكان كذا ، ولو قال له : أين أخوك ؟ لكان الجواب أن يقول : ببلدة كذا ، أو بموضع كذا ، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله ، فيعلم أن أين مسألة عن المحل . ولو قال قائل لاَخر : كيف أنت ؟ لقال : صالح أو بخير أو في عافية ، وأخبره عن حاله التي هوفيها ، فيعلم حينئذٍ أن كيف مسألة عن حال المسؤول عن حاله . ولو قال له : أنى يحيي الله هذا الميت ؟ لكان الجواب أن يقال : من وجه كذا ووجه كذا ، فيصف قولاً نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال : أنّى يُحْيى هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فعلاً حين بعثه من بعد مماته . وقد فرّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها ، فقال الكميت بن زيد :
تَذَكّرَ مِنْ أنّى ومِنْ أينَ شُرْبُهُ *** يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كذي الهجمةِ الأبِلْ
أنّى ومِنْ أيْنَ نابَكَ الطّرَبُ *** مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ
فيجاء ب «أنّى » للمسألة عن الوجه وب«أين » للمسألة عن المكان ، فكأنه قال : من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب .
والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره : فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ كيف شئتم ، أو تأوله بمعنى حيث شئتم ، أو بمعنى متى شئتم ، أو بمعنى أين شئتم أن قائلاً لو قال لاَخر : أنى تأتي أهلك ؟ لكان الجواب أن يقول : من قبلها أو من دبرها ، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت : أنّى لَكِ هَذَا أنها قالت : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ . وإذ كان ذلك هو الجواب ، فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ إنما هو : فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتي ، وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للاَية بتأويل . وإذ كان ذلك هو الصحيح ، فبين خطأ قول من زعم أن قوله : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار ، لأن الدبر لا يحترث فيه ، وإنما قال تعالى ذكره : حَرْث لَكُمْ فأتوا الحرث من أي وجوهه شئتم ، وأيّ محترث في الدبر فيقال ائته من وجهه . وتبين بما بينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عباس من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ .
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : قدموا لأنفسكم الخير . ذكر من قال ذلك :
3حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، أما قوله : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ فالخير .
وقال آخرون : بل معنى ذلك وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ ذكْرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه ذكر من قال ذلك :
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني محمد بن كثير ، عن عبد الله بن واقد ، عن عطاء ، قال : أراه عن ابن عباس : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ قال : التسمية عند الجماع يقول بسم الله .
والذي هو أولى بتأويل الآية ، ما روينا عن السدي ، وهو أن قوله : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ أمر من الله تعالى ذكره عباده بتقديم الخير ، والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم ، عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب ، فإنه قال تعالى ذكره : وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية ، لأن الله تعالى ذكره عقب قوله : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه ، فكان الذي هو أولى بأن يكون الذي قبل التهديد على المعصية عاما الأمر بالطاعة عاما .
فإن قال لنا قائل : وما وجه الأمر بالطاعة بقوله : وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ من قوله : نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ ؟ قيل : إن ذلك لم يقصد به ما توهمته ، وإنما عنى به وقدّموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا : يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْقتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجيبوا عنه مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الاَيات ، ثم قال تعالى ذكره : قد بينا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم إلى ما يرضي ربكم عنكم ، فقدموا لأنفسكم الخير الذي أمركم به ، واتخذوا عنده به عهدا لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم ، واتقوه في معاصيه أن تقربوها وفي حدوده أن تضيعوها ، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم ، فمجازٍ المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاتّقُوا اللّهَ واعْلَمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشّر المُؤْمِنِينَ .
وهذا تحذير من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا شيئا مما نهاهم عنه من معاصيه ، وتخويف لهم عقابه عند لقائه ، كما قد بينا قبل ، وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده بالفوز يوم القيامة ، وبكرامة الاَخرة ، وبالخلود في الجنة من كان منهم محسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه ، مصدقا إيمانه قولاً بعمله ما أمره به ربه ، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه ، وبتجنبه ما أمره بتجنبه من معاصيه .
هذه الجملة تذييل ثان لجملة : { فأتوهن من حيث أمركم الله } [ البقرة : 222 ] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى ، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى « لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً إنها لبلادُهم » وتعتبر جملة { نساؤكم حرث } مقدِّمة لجملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا ، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة .
والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار . وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول .
وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها .
وقال : { والخيل المسومة والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] أي الجنات والحوائط والحقول .
وقال : { كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } [ »ل عمران : 117 ] أي فأهلكت زرعهم .
وقال : { فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } [ القلم : 22 ] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر .
والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل { فأتوا حرثكم } وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه ، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل " .
والفاء في { فأتوا حرثكم أنى شئتم } فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم ، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال .
وكلمة ( أنى ) اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها ، وقد كثر استعماله مجازاً في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه ، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو { كيف يشاء } [ آل عمران : 6 ] وقال في « لسان العرب » : إن ( أنى ) تكون بمعنى ( متى ) ، وقد أضيف ( أنى ) في هذه الآية إلى جملة ( شئتم ) والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل ( أنى ) على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان .
إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم ، فمنهم من جعلوه ظرفاً لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في « صحيح البخاري » تفسيراً من ابن عمر ، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور ب ( من ) ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف ، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه . فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض . فتحمل ( أنى ) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى : { وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 2 ] .
ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية ، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطّرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك ، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية ، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام ، على ثقل في جريانها ، على الألسنة والأقلام .
روى البخاري ومسلم في « صحيحهما » عن جابر بن عبد الله : أن اليهود قالوا إذا أتى الرجل امرأته مجبية جاء الولد أحول ، فسأل المسلمون عن ذلك فنزلت { نساؤكم حرث لكم } الآية وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال : كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحاً ( أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن ) ومقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتَى على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني حتى شَرِي أمرُهما ( أي تفاقم اللجاج ) فبلغ ذلك النبي فأنزل الله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي مقبلات كن أو مدبرات أو مستلقيات يعني بذلك في موضع الولد ، وروي مثله عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الترمذي ، وما أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكتُ قال وما أهلكك ؟ قال : حوَّلْت رحلي الليلة ( يريد أنه أتى امرأته وهي مستدبرة ) فلم يردَّ عليه رسول الله شيئاً فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية : { نساؤكم حرث لكم } الآية .
وروى البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عليه المصحف يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى { فأتوا حرثكم أنى شئتم } قال : تدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا قال : أنزلت في كذا وكذا وفي رواية عن نافع في البخاري « يأتيها في . . . . » ولم يزد وهو يعني في كلتا الروايتين عنه إتيان النساء في أدبارهن كما صرح بذلك في رواية الطبري وإسحاق بن راهويه : أنزلت إتيان النساء في أدبارهن ، وروى الدارقطني في « غرائب مالك » والطبري عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رجلاً أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } وقد روى أن ذلك الرجل هو عبد الله بن عمر ، وعن عطاء بن يسار أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر الناس عليه وقالوا : أثفرها فأنزل الله تعالى { نساؤكم حرث لكم } فعلى تأويل هؤلاء يكون قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ، تشبيهاً للمرأة بالحرث أي بأرض الحرث وأطلق { فأتوا حرثكم } على معنى : فاحرثوا في أي مكان شئتم .
أقول : قد أجمل كلام الله تعالى هنا ، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال { أمركم الله } معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها ، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه ، ثم أتبع بقوله : { يحب التوابين } [ البقرة : 222 ] فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله : { ويحب المتطهرين } فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه ، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل { يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين } [ التوبة : 108 ] ، واحتمالها لمعنى : ويبغض غير ذلك ، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله : { نساؤكم حرث لكم } فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه ؛ فقد يقال : إنه وكل للمعروف ، وقد يقال : إنه جعل شائعاً في المرأة ، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها ، ثم قال : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات ، وقد قيل : إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان ، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن .
واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوعُ علم المتأمل ، وفيها أقوال كثيرة ومذاهب مختلفة لفقهاء الأمصار في كتب أحكام القرآن وكتب السنة ، وفي دواوين الفقه ، وقد اقتصرنا على الآثار التي تمت إلى الآية بسبب نزول ، وتركنا ما عداه إلى أفهام العقول .
{ وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين }
عطف على جملة { فأتوا حرثكم } أو على جملة { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } . عطف الإنشاء على الخبر ، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر ؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة .
وحذف مفعول { وقدموا } اختصاراً لظهوره ؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر .
وقوله : { لأنفسكم } متعلق ب { قدموا } ، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها ، وقوله : { واتقوا الله } تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة ، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات ، فمضمونها أعم من مضمون جملة { وقدموا لأنفسكم } فلذلك كانت هذه تذييلاً .
وقوله : { واعلموا أنكم ملاقوه } يجمع التحذير والترغيب ، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] وهو عطف على قوله : { واتقوا الله } .
والملاقاة : مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة . وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها ، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد ، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن ، ليزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم وتنافساً فيه على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة : { اعلموا } اهتماماً بالخبر واستنصاتاً له وهي نقطة عظيمة سيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } في سورة الأنفال ( 24 ) .
وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج ؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم ، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء ، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل .
وقوله : { وبشر المؤمنين } تعقيب للتحذير بالبشارة ، والمراد : المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء : « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه » وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان ، وجملة : { وبشر المؤمنين } ، معطوفة على جملة : { واعلموا أنكم ملاقوه } ، على الأظهر من جعل جملة : { نساؤكم حرث لكم } ، استئنافاً غير معمولة لقل هو أذى ، وإذا جعلت جملة { نساؤكم } من معمول القول كانت جملة { وبشر } معطوفة على جملة : { قُلْ هُوَ أَذًى } ؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني .