الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مزدرع أولادكم، فأتوا مزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم، وإنما عنى بالحرث المزدَرَع، والحرث هو الزرع، ولكنهن لما كنّ من أسباب الحرث جعلن حرثا، إذ كان مفهوما معنى الكلام. عن ابن عباس:"فَأْتُوا حَرْثَكُمْ" قال: منبت الولد.

"فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ": فانكحوا مزدرع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى. والإتيان في هذا الموضع كناية عن اسم الجماع.

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ"؛ فقال بعضهم: معنى أنّى: كيف... عن ابن عباس: يأتيها كيف شاء ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض... مقبلة ومدبرة.

وقال آخرون: معنى: "أنّى شِئْتُمْ "من حيث شئتم، وأيّ وجه أحببتم. وقال آخرون: معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ" متى شئتم. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم. وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم، إن شئتم فاعزلوا وإن شئتم فلا تعزلوا.

وأما الذين قالوا: معنى قوله: "أنّى شِئْتُمْ" كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرج والقبل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبَل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من أن معنى ذلك على ما قلنا.

واعتلوا لقيلهم ذلك بما: حدثني به أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية وأسأله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" فقال ابن عباس: إن هذا الحيّ من قريش، كانوا يشرحون النساء بمكة، ويتلذّذون بهنّ مقبلات ومدبرات. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهنّ كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نؤتى عليه، فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك: "نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" إن شئت فمقبلة وإن شئت فمدبرة وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث، يقول: ائت الحرث من حيث شئت.

والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال: معنى قوله "أنّى شِئْتُمْ": من أيّ وجه شئتم، وذلك أنّ أنّى في كلام العرب كلمة تدل إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب، فكأن القائل إذا قال لرجل: أنى لك هذا المال؟ يريد من أيّ الوجوه لك، ولذلك يجيب المجيب فيه بأن يقول: من كذا وكذا، كما قال تعالى ذكره مخبرا عن زكريا في مسألته مريم: "أنّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدَ اللّهِ" وهي مقاربة أين وكيف في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت «أنى» على سامعها ومتأوّلها حتى تأوّلها بعضهم بمعنى أين، وبعضهم بمعنى كيف، وآخرون بمعنى متى، وهي مخالفة جميع ذلك في معناها وهن لها مخالفات. وذلك أن «أين» إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال، وإنما يستدلّ على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلاً لو سأل آخر فقال: أين مالك؟ لقال بمكان كذا، ولو قال له: أين أخوك؟ لكان الجواب أن يقول: ببلدة كذا، أو بموضع كذا، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله، فيعلم أن أين مسألة عن المحل. ولو قال قائل لآخر: كيف أنت؟ لقال: صالح أو بخير أو في عافية، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذٍ أن كيف مسألة عن حال المسؤول عن حاله. ولو قال له: أنى يحيي الله هذا الميت؟ لكان الجواب أن يقال: من وجه كذا ووجه كذا، فيصف قولاً نظير ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: "أنّى يُحْيى هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها" فعلاً حين بعثه من بعد مماته. فيجاء ب «أنّى» للمسألة عن الوجه وب«أين» للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أي وجه ومن أي موضع رجعك الطرب.

والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره: "فَأتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" كيف شئتم، أو تأوله بمعنى حيث شئتم، أو بمعنى متى شئتم، أو بمعنى أين شئتم أن قائلاً لو قال لآخر: أنى تأتي أهلك؟ لكان الجواب أن يقول: من قبلها أو من دبرها، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذ سئلت: "أنّى لَكِ هَذَا" أنها قالت: "هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ". وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلوم أن معنى قول الله تعالى ذكره: "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" إنما هو: فأتوا حرثكم من حيث شئتم من وجوه المأتي، وأن ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل. وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبين خطأ قول من زعم أن قوله: "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ" دليل على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدبر لا يحترث فيه، وإنما قال تعالى ذكره: حَرْث لَكُمْ فأتوا الحرث من أي وجوهه شئتم، وأيّ محترث في الدبر فيقال ائته من وجهه. وتبين بما بينا صحة معنى ما روي عن جابر وابن عباس من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين إذا أتى الرجل المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول.

"وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ".

اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخير. وقال آخرون: بل معنى ذلك وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ ذكْرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه...عن ابن عباس: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" قال: التسمية عند الجماع يقول بسم الله.

والذي هو أولى بتأويل الآية، هو أن قوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" أمر من الله تعالى ذكره عباده بتقديم الخير، والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عدة منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: "وَما تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ" وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقب قوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه، فكان الذي هو أولى بأن يكون الذي قبل التهديد على المعصية عاما الأمر بالطاعة عاما.

فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله: "وَقَدّمُوا لأنْفُسِكُمْ" من قوله: "نِساوكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنّى شِئْتُمْ"؟ قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمته، وإنما عنى به وقدّموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا: "يَسألُونَكَ ماذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ..." وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجيبوا عنه مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات، ثم قال تعالى ذكره: قد بينا لكم ما فيه رشدكم وهدايتكم إلى ما يرضي ربكم عنكم، فقدموا لأنفسكم الخير الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدا لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم، واتقوه في معاصيه أن تقربوها وفي حدوده أن تضيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فمجازٍ المحسن منكم بإحسانه والمسيء بإساءته.

"وَاتّقُوا اللّهَ واعْلَمُوا أنّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشّر المُؤْمِنِينَ": وهذا تحذير من الله تعالى ذكره عباده أن يأتوا شيئا مما نهاهم عنه من معاصيه، وتخويف لهم عقابه عند لقائه، كما قد بينا قبل، وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده بالفوز يوم القيامة، وبكرامة الاَخرة، وبالخلود في الجنة من كان منهم محسنا مؤمنا بكتبه ورسله وبلقائه، مصدقا إيمانه قولاً بعمله ما أمره به ربه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنبه ما أمره بتجنبه من معاصيه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

فيه دليل النهي عن الاعتزال عنها، لأن المزرع إذا ترك سدى يضيع، ويخرب...

قوله: {أنكم ملاقوه} أي ملاقوا ربكم بوعده ووعيده.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} يعني طلب الولد، وقيل: التزوّج بالعفائف ليكون الولد صالحاً طاهراً، وقيل: هو لذم الإفراط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلاّ تحلّة القسم، فقيل: يا رسول الله اثنان، قال: واثنان، فقال: فظننا أن لو قيل واحد لقال واحد".

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

{وَقَدِّموا لأَنْفُسِكُمْ} من الأعمال الصالحة ما ينفعكم يوم إفلاسكم، لذلك قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُّلاقُوهُ} فانظروا لأنفسكم بتقديم ما يسركم وجدانه عند ربكم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{حَرْثٌ لَّكُمْ} مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور.

{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم. لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحداً وهو موضع الحرث.

وقوله: {هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء}، {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم.

{واتقوا الله} فلا تجترئوا على المناهي {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} فتزوّدوا ما لا تفتضحون به {وَبَشّرِ المؤمنين} المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{واتقوا الله} تحذير، {واعلموا أنكم ملاقوه} خبر يقتضي المبالغة في التحذير، أي فهو مجازيكم على البر والإثم، {وبشر المؤمنين} تأنيس لفاعلي البر ومتبعي سنن الهدى.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وبشر المؤمنين} أي: بحسن العاقبة في الآخرة، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان. وفي أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية. ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات، وغيَّا ذلك بالطهر كما غيَّا ما قبله بالإيمان، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهنّ من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولاً بالحيض، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال: إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين. ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاءها الزوج ويختارها، من كونها مقبلة أو مدبرة، أو مجنبة أو مضطجعة، ومن أي شق شاء، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها، والهيآت المحركة للباه.

ونبه بالحرث على أنه محل النسل، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى وأحرى، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح، وأن ما قدّمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه، ثم أمر بتقوى الله تعالى، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله، فيجازينا على أعمالنا، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى، وتعلق الجمل وتأنق المبنى، من سؤال وجواب، وتحذير من عقاب، وترغيب في ثواب، هدت إلى الصراط المستقيم، وتلقيت من لدن حكيم عليم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما بين سبحانه وتعالى المأتي في الآية السابقة نوع بيان أوضحه مشيراً إلى ثمرة النكاح الناهية لكل ذي لب عن السفاح فقال: {نساؤكم} أي اللاتي هن حل لكم بعقد أو ملك يمين ولما كان إلقاء النطفة التي يكون منها النسل كإلقاء البذر الذي يكون منه الزرع شبههن بالمحارث دلالة على أن الغرض الأصيل طلب النسل فقال مسمياً موضع الحرث باسمه موقعاً اسم الجزء على الكل موحداً لأنه جنس {حرث لكم} فأوضح ذلك.

قال الحرالي: ليقع الخطاب بالإشارة أي في الآية الأولى لأولي الفهم وبالتصريح أي في هذه لأولي العلم لأن الحرث كما قال بعض العلماء إنما يكون في موضع الزرع...

وفي تخصيص الحرث بالذكر وتعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه بقوله: {فأتوا حرثكم} أي الموضع الصالح للحراثة {أنى شئتم} أي من أين وكيف إشارة إلى تحريم ما سواه لما فيه من العبث بعدم المنفعة. قال الثعلبي: الأدبار موضع الفرث لا موضع الحرث.

ولما كانت هذه أموراً خفية لا يحمل على صالحها وتحجر عن فاسدها إلا محض الورع قال: {وقدموا} أي أوقعوا التقديم.

ولما كان السياق للجمع وهو من شهوات النفس قال مشيراً إلى الزجر عن اتباعها كل ما تهوى: {لأنفسكم} أي من هذا العمل وغيره من كل ما يتعلق بالشهوات ما إذا عرض على من تهابونه وتعتقدون خيره افتخرتم به عنده وذلك بأن تصرفوا مثلاً هذا العمل عن محض الشهوة إلى قصد الإعفاف وطلب الولد الذي يدوم به صالح العمل فيتصل الثواب،

ولما كانت أفعال الإنسان في الشهوات تقرب من فعل من عنده شك احتيج إلى مزيد وعظ فقال: {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يكرهه الملك الأعظم من ذلك وغيره وقاية من الحلال أو المشتبه.

وزاد سبحانه وتعالى في الوعظ والتحذير بالتنبيه بطلب العلم وتصوير العرض فقال: {واعلموا أنكم ملاقوه} وهو سائلكم عن جميع ما فعلتموه من دقيق وجليل وصالح وغيره فلا تقعوا فيما تستحيون منه إذا سألكم فهو أجل من كل جليل.

قال الحرالي: وفيه إشعار بما يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا يصل إليها أحكام حكام الدنيا مما لا يقع الفصل فيه إلا في الآخرة من حيث إن أمر ما بين الزوجين سر لا يفشى... فأنبأ تعالى أن أمر ما بين الزوجين مؤخر حكمه إلى لقاء الله عز وجل حفيظة على ما بين الزوجين ليبقى سراً لا يظهر أمره إلا الله تعالى، وفي إشعاره إبقاء للمروة في أن لا يحتكم الزوجان عند حاكم في الدنيا وأن يرجع كل واحد منهما إلى تقوى الله وعلمه بلقاء الله...

ولما كان هذا لا يعقله حق عقله كل أحد أشار إلى ذلك بالالتفات إلى أكمل الخلق فقال عاطفاً على ما تقديره: فأنذر المكذبين فعلاً أو قولاً، قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} أي الذين صار لهم الإيمان وصفاً راسخاً تهيؤوا به للمراقبة، وهو إشارة إلى أن مثل هذا من باب الأمانات لا يحجز عنه إلا الإخلاص في الإيمان والتمكن فيه.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

فهذه أوامر تدل على أن هنا شيئا يرغب فيه وشيئا يرغب عنه ويحذر منه؛

أما ما يرغب فيه فهو ما يقدم للنفس وهو ما ينفعها في المستقبل ولا أنفع للإنسان في مستقبله من الولد الصالح، فهو ينفعه في دنياه كما هو ظاهر، وفي دينه من حيث إن الوالد سبب وجوده وصلاحه، وقد ورد في الحديث أن الولد الصالح من عمل المرء الذي ينفعه دعاؤه بعد موته، ولا يكون الولد صالحا إلا إذا أحسن والداه تربيته، فالأمر بالتقديم للنفس، يتضمن الأمر باختيار المرأة الودود الولود التي تعين الرجل على تربية ولده بحسن خلقها وعملها، كما يختار الزراعة في الأرض الصالحة، التي يرجى نماء النبات فيها وإيتاؤه الغلة الجيدة، ويتضمن الأمر بحسن تربية الولد وتهذيبه.

وأما ما يحذر منه ويتقى الله فيه فهو إخراج النساء عن كونهن حرثا بإضاعة مادة النسل في المحيض أو بوضعها في غير موضع الحرث، وكذلك اختيار المرأة الفاسدة التربية وإهمال تربية الولد. فإن الأمر بالتقوى ورد بعد نهي عن إتيان النساء في المحيض والأمر بإتيانهن من حيث أمر الله تعالى وهو موضع الحرث والأمر بالتقديم لأنفسنا فوجب تفسير التقوى بتجنب مخالفة هذا الهدى الإلهي.

وقوله تعالى {واعلموا أنكم ملاقوه} إنذار للذين يخالفون عن أمره بأنهم يلاقون جزاء مخالفتهم في الآخرة كما يلاقونها في الدنيا، بفقد منافع الطاعة والامتثال وتجرع مرارة عاقبة المخالفة والعصيان.

ثم قرن إنذار العاصين بتبشير المطيعين فقال {وبشر المؤمنين} الذين يقفون عند الحدود ويتبعون هدى الله تعالى في أمر النساء والأولاد، وقد حذف ما به البشارة ليفيد أنه عام يشمل منافع الدنيا ونعيم الآخرة.

ولا يعزب عن فكر العاقل أن من يختار لنفسه المرأة الصالحة ولا يخرج في شأن الزوجية عن سنة الفطرة والشريعة في ابتغاء الولد، ثم إنه يحسن تربية ما يرزقه الله من ولد، فإنه يكون في الدنيا قرير العين بحسن حاله وحال أهله وسعادة بيته. وأما الذين تطغى بهم شهواتهم فتخرجهم عن الحدود والسنن فإنهم لا يسلمون من المنغصات والشقاء في حياتهم الدنيا، وهو في الآخرة أشقى وأضل سبيلا، وإنما سعادة الدارين في تكميل النفس بالاعتقاد الصحيح، والأخلاق المعتدلة، وتلك هي الفطرة السليمة.

والتعبير بالمؤمنين يشعر بأن العمل والامتثال والإذعان مما يتحقق به إيمان المؤمن وأن فائدة الإيمان بثمراته هذه، وإن شئت قلت بتمام أركانه وهي الاعتقاد والقول والفعل، كما ورد في الأحاديث الصحيحة المبينة للآيات الكريمة، والدامغة للذين يفصلون بين الاعتقاد والأعمال اللازمة له.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لم يذكر المبشر به ليدل على العموم، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وكل خير واندفاع كل ضير، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة. وفيها محبة الله للمؤمنين، ومحبة ما يسرهم، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

في هذا الظل يصور لونا من الوان العلاقة الزوجية يناسبه ويتسق مع خطوطه: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}.. وفي هذا التعبير الدقيق ما فيه من إشارات إلى طبيعة تلك العلاقة في هذا الجانب، وإلى أهدافها واتجاهاتها. نعم! إن هذا الجانب لا يستغرق سائر العلاقات بين الزوج وزوجه. وقد جاء وصفها وذكرها في مواضع أخرى مناسبة للسياق في تلك المواضع. كقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن}.. وقوله: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}.. فكل من هذه التعبيرات يصور جانبا من جوانب تلك العلاقة العميقة الكبيرة في موضعه المناسب. أما مناسبة السياق هنا فيتسق معها التعبير بالحرث. لأنها مناسبة إخصاب وتوالد ونماء. وما دام حرثا فأتوه بالطريقة التي تشاءون. ولكن في موضع الإخصاب الذي يحقق غاية الحرث: {فأتوا حرثكم أنى شئتم}.. وفي الوقت ذاته تذكروا الغاية والهدف، واتجهوا إلى الله فيه بالعبادة والتقوى؛ فيكون عملا صالحا تقدمونه لأنفسكم. واستيقنوا من لقاء الله، الذي يجزيكم بما قدمتم: {وقدموا لأنفسكم. واتقوا الله. واعلموا أنكم ملاقوه}..

ثم يختم الآية بتبشير المؤمنين بالحسنى عند لقاء الله، وفي هذا الذي يقدمونه من الحرث، فكل عمل للمؤمن خير، وهو يتجه فيه إلى الله: {وبشر المؤمنين} هنا نطلع على سماحة الإسلام، الذي يقبل الإنسان كما هو، بميوله وضروراته، لا يحاول أن يحطم فطرته باسم التسامي والتطهر؛ ولا يحاول أن يستقذر ضروراته التي لا يد له فيها؛ إنما هو مكلف إياها في الحقيقة لحساب الحياة وامتدادها ونمائها! إنما يحاول فقط أن يقرر إنسانيته ويرفعها، ويصله بالله وهو يلبي دوافع الجسد. يحاول أن يخلط دوافع الجسد بمشاعر إنسانية أولا، وبمشاعر دينية أخيرا؛ فيربط بين نزوة الجسد العارضة وغايات الإنسانية الدائمة ورفرفة الوجدان الديني اللطيف؛ ويمزج بينها جميعا في لحظة واحدة، وحركة واحدة، واتجاه واحد، ذلك المزج القائم في كيان الإنسان ذاته، خليفة الله في أرضه، المستحق لهذه الخلافة بما ركب في طبيعته من قوى وبما أودع في كيانه من طاقات.. وهذا المنهج في معاملة الإنسان هو الذي يلاحظ الفطرة كلها لأنه من صنع خالق هذه الفطرة. وكل منهج آخر يخالف عنه في قليل أو كثير يصطدم بالفطرة فيخفق، ويشقى الإنسان فردا وجماعة. والله يعلم وأنتم لا تعلمون...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

هذه الجملة تذييل ثان لجملة: {فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى...

وتعتبر جملة {نساؤكم حرث} مقدِّمة لجملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة.

والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.

والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل {فأتوا حرثكم} وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم "الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل". والفاء في {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.

فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل (أنى) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} بعد قوله: {غير محلي الصيد وأنتم حرم} [المائدة: 2].

أقول: قد أجمل كلام الله تعالى هنا، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال {أمركم الله} معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا... ثم أتبع بقوله: {يحب التوابين} [البقرة: 222] فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله: {ويحب المتطهرين} فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل {يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} [التوبة: 108]، واحتمالها لمعنى: ويبغض غير ذلك، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله: {نساؤكم حرث لكم} فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه؛ فقد يقال: إنه وكل للمعروف، وقد يقال: إنه جعل شائعاً في المرأة، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها، ثم قال: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات، وقد قيل: إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمالا بديعا وأثنى ثناء حسنا.

{وَقَدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين} عطف على جملة {فأتوا حرثكم} أو على جملة {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. عطف الإنشاء على الخبر، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة. وحذف مفعول {وقدموا} اختصاراً لظهوره؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر.

وقوله: {لأنفسكم} متعلق ب {قدموا}، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها، وقوله: {واتقوا الله} تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات، فمضمونها أعم من مضمون جملة {وقدموا لأنفسكم} فلذلك كانت هذه تذييلاً.

وقوله: {واعلموا أنكم ملاقوه} يجمع التحذير والترغيب، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله: {ووجد الله عنده} [النور: 39] وهو عطف على قوله: {واتقوا الله}.

والملاقاة: مفاعلة من اللقاء وهو الحضور لدى الغير بقصد أو مصادفة. وأصل مادة لقي تقتضي الوقوع بين شيئين فكانت مفيدة معنى المفاعلة بمجردها، فلذلك كان لقي ولاقى بمعنى واحد، وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلاً لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماماً بهذا المعلوم وتنافساً فيه

على أننا رأينا أن في افتتاح الجملة بكلمة: {اعلموا} اهتماماً بالخبر واستنصاتاً له وهي نقطة عظيمة...

وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل...

وقوله: {وبشر المؤمنين} تعقيب للتحذير بالبشارة، والمراد: المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء: « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} في هذه الآية يشير الله سبحانه وتعالى إلى ثلاثة أمور:

أولها: بيان أن المقصد من الزواج ليس هو قضاء الوطر وإشباع الشهوة، فإن ذلك كما يكون في زواج شرعي يكون في المسافدة الحيوانية، إنما المقصد هو النسل وبقاء هذا الإنسان في الوجود على أكمل وجه، وتهذيب النشء بين أبويه وفي أحضانهما لتنمو غرائزه وتتهذب طبائعه، وتستيقظ ينابيع الخير فيه.

و ثاني هذه الأمور: أن ما يكون بين الزوجين اللذين جمعهما الله بكلمة الشرع وحكمه هو الأنس الروحي مع المتعة الجسدية، وإن ذلك ليقتضي زوال الكلفة، وأن يكون بينهما من المباسطة ما تسهل معه الحياة، ويكون في البيت تخفيف أعبائها، واستجمام القوى، ليستطيع تحمل تكليفاتها.

و ثالث هذه الأمور: أن الدين يجب أن يكون مسيطرا، ويجب أن تكون العدالة قائمة، والمودة حاكمة فيما بين الرجل والمرأة...

و قد أشير إلى الأمر الأول بقوله تعالى: {نساؤكم حرث لكم} وأشير إلى الأمر الثاني بقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وأشير إلى الأمر الثالث بقوله تعالى: {و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين}...

وقد قال في وجه التشبيه الراغب الأصفهاني (بالنساء زرع ما فيه بقاء نوع الإنسان، كما أنه بالأرض زرع ما به بقاء أشخاصهم).

ففي الكلام إذن تشبيه الزوجة بالحرث، ووجه التشبيه الذي ذكره كان بين الزوجة وبين الأرض الخصبة المنتجة من حيث إن كليهما يمد الوجود الإنساني، فالزوجة تمده بعنصر تكوينه وإنشائه، والأرض تمده بالزرع الذي يكون به بقاؤه...

وكيفما كان توجيه التشبيه من الناحية اللفظية، فإن الجملة الكريمة ترمي إلى معنى كريم، وهو أن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست هي قضاء الوطر لإشباع الشهوة المجردة، بل هي تنظيم النسل فلا يصح للرجل الكامل الذي اتجهت به الإنسانية نحو الكمال أن ينظر إلى زوجه إلا على أنها مستودع سر الوجود الإنساني، وأنها مرمى ولده، وأن قطعة منه تتصل بها فيختلط وجوده بوجودها، وتخرج من رحمها وديعته، وقد امتزجت فيها عناصرهما وخواصهما وطبائعهما، وصارت صورة في الوجود لأشخاصهما، ومنازعهما، وإذا كانت الخلطة الفطرية قد أوجد الله بها ذلك المخلوق الذي يريان فيه أنفسهما موحدة متلاقية، فإن ذلك يتقاضاهما أو يحملهما على تنشئته على صورة لما يصبوان إليه من كمال، وإذا تقاصرت نفس أحدهما عن الآخر فقد يكون الاضطراب في تكوينه الخلقي، بل يكون نقص في تكميل نموه الجسمي.

و إذا كان ذلك بعض ما يشير إليه التعبير عن الأزواج بأنهن حرث، فإنه بلا شك يحث الرجل على أن يتخير موضع حرثه، كما يتخير موضع زرعه، فإنه لا يطلب لبذره إلا الخصبة القوية من الأرض، فكذلك لا يطلب إلا القوية من النساء في جسمها وخلقها ودينها، وطيب أرومتها، وكرم بيئتها، ليكون الولد قويا، ولينشأ نشأة كاملة تربي فيه قوة الجسم والخلق والدين والعقل، ولذا جاء في المأثور "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم "وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم وخضراء الدمن" وهي المرأة الجميلة التي نبتت في منبت سوء. فلا تطلب المرأة لجمالها ولمالها، ولا لجاه أسرتها، ولكن تطلب لدينها وخلقها، ولبيئتها الدينية الخلقية الطاهرة.

وقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} يشير إلى المباسطة التي تكون بين الزوجين، وإبعاد ما يتكلفه الإنسان في لقاء الإنسان، فإن ذلك يزول عندما يكون الرجل مع زوجه، ويستروح راحة الحياة، ومودة العشرة الزوجية، فإن قوله: {فأتوا حرثكم أنى شئتم} معناه قاربوا أو باشروا نساءكم كيفما شئتم. فكان قوله تعالى: [{فأتوا حرثكم أنى شئتم} مزيلا للتكلف، داعيا إلى المباسطة، ليكون ما بين الرجل والمرأة فيه استرواح للنفوس، واستجمام للقلوب،

وذكر الحرث في قوله سبحانه: {فأتوا حرثكم] للإشارة إلى أنه مع إباحة الاستمتاع الجسدي، والاسترواح النفسي، وإحلال المباسطة محل التكلف والتزمت، مع كل هذا لا ينسى المقصود الأصلي، وهو أن الغاية هو النسل والقيام على شئونه وتربيته، فإذا كانت الحياة الزوجية يزول فيها كل ما يحجب الإنسان عن الإنسان من ظواهر وأشكال، فإن لذلك غايتين ساميتين: إحداهما: النسل وتهذيبه والقيام على شئونه. و الثانية: الاستجمام والاستعداد بهذا الاستجمام للقيام بأعباء الحياة موفور القوى النفسية التي هي معين الصبر، وأساس الاحتمال.

{و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين} اشتملت هذه الجمل السامية على ثلاثة أوامر، وبشرى، أما الأوامر الثلاثة فهي {و قدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه}، وأما البشرى، فهي {و بشر المؤمنين.

و الأمر الأول: وهو قوله تعالى {و قدموا لأنفسكم} معناه اعملوا في حاضركم ما يكون لمستقبلكم ذخرا وعتادا، وقدموا من الأعمال الصالحة في الحاضر، ما يكون نفعا لكم في المستقبل، لأن من يعمل عملا صالحا في حاضره، يمكن للمستقبل الحسن لنفسه، وهذا المعنى عام يشمل كل عمل صالح، وكل بر يقدم عليه الإنسان، فهو حصن المستقبل، يقدمه لنفسه من بناء الحاضر على عماد مكين من الخير، وهو في هذه الآية يدل مع هذا العموم على معنى فيها على وجه الخصوص، وهو ما يتناسب مع الزواج وعشرة الأهل، والقيام على شئونهم، فالمعنى على هذا: قدموا لأنفسكم في أمر الزواج وما يثمره، بأن تختاروا عند الزواج ذات الخلق والدين والعفاف والاعتدال، حتى يكون لكم حياة هنيئة في حياتكم الزوجية، فمن اختار الزوج العفيفة ذات الدين فقد قدم لنفسه، ولمستقبله، وإذا أحسنتم الاختيار فاطلبوا النسل وقوموا على شئونه وتعهده بالخلق الجميل وبث الفضيلة في نفسه، فإن من قام على تربية ولده فقد قدم لنفسه، والولد عمل صالح لأبيه، وإذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من بر يؤثر عنه، وولد صالح يذكره ويدعو له، وصدقة جارية مأثورة عنه، ثم إذا أحسنتم اختيار الزوج فأحسنوا عشرتها، وخذوها بالرفق والدين والفضيلة والمعاملة الحسنة والقيام بحقها، فإن من يفعل ذلك يقدم لنفسه، فإن المرأة إذا جمحت نغصت البيت، وكان العيش نكدا، فمن أحسن معاملة أهله فقد قدم لنفسه. و على هذا يكون لقوله تعالى: "وقدموا لأنفسكم" معنى عام يشمل كل خير، ويدخل في عمومه معنى خاص، وهو ما يتعلق بالزواج والعشرة الزوجية والولد.

و الأمر الثاني: قوله تعالى: {واتقوا الله} وله معنى عام هو أن يجعلوا بينهم وبين عصيان الله وقاية، ويخافوا الله سبحانه، ويجتنبوا المعاصي، والأذى، وظلم الحقوق، والاعتداء على الناس، وخصوصا الرقيق، ويدخل في هذا المعنى العام معنى خاص يتصل بموضوع الآيات الكريمة، وهو الزواج وما يثمره، وهو أن يتقي أذى العشير، وظلم المرأة، وهضمها حقوقها، وظلم الأولاد بعدم القيام على شئونهم، وحسن تربيتهم، وإن أذى المرأة ظلم ليس فوقه ظلم، وهو ظلمات يوم القيامة. وفي المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم، اتخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله".و كان آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أن يتقوا الله تعالى في المرأة والرقيق.

و الأمر الثالث: قوله {واعلموا أنكم ملاقوه} والإيمان بلقاء الله تعالى هو الذي يربي النفس على فعل الطاعات واجتناب المنهيات، وهو الذي يجعل الإنسان يطمئن إلى فعل الخير، إذ يعلم أن فيه رضوان الله، وهو سيلقاه، ويجنب نفسه فعل الشر، لأن فيه غضب الله، وسيلقاه، وسيجزيه الجزاء الأوفى، سيجزيه على الإحسان إحسانا، وعلى السوء سوءا، إنه بكل شيء عليم. وهذا المعنى عام في كل شئون الحياة، ويدخل في هذا العموم المعنى الخاص بالحياة الزوجية، وهو أن يراقب الله في معاملته لأهله وولده، وإن المرأة إن كانت بين يديه قد فقدت النصير، أو حيل بينها وبين نصرائها، فليعلم أن الله معها، وأنه عليه رقيب، وانه سيلاقيه وسيأخذه أخذ عزيز مقتدر، ومنتقم جبار، وأنه إن استبد به طغيانه فأكل حقوقها، وانحرفت فطرته فضيع أولاده، فإن الله عليه رقيب، وسيلقاه، ويجزيه على سوء ما صنع، وإذا أحسن العشرة، وقام بحق الله وحق الزوج وحق الولد، فأعطى كل ذي حق حقه، فإن الله سيلقاه، وسيجزيه من الخير بما قدمت يداه.

وإن هذه هي بشرى المؤمنين، وهي قوله تعالى: {وبشر المؤمنين} فالإيمان يتقاضى المؤمن أن يقوم بحق أهله وبحق ولده، وأن يكون حسن العشرة، وألا يهضم أهله، وإن لم يفعل فليس من الإيمان في شيء، والله ولي المتقين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

لو أمعنا النظر في قوله سبحانه، لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري...

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول: {واتّقوا الله واعلموا أنّكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}. لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحاً على الإنسان، فإنّ الله تعالى يدعو في هذه الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الانحراف، وتُنذر الجميع بأنّهم ملاقوا ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.