فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة ؛ إذ هو مزدرع الذرية ، كما أن الحرث مزدرع النبات . فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه ، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى ، أعني قوله : { فَأتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } . وقوله : { أنى شِئْتُمْ } أي : من أي جهة شئتم من خلف ، وقدام ، وباركة ، ومستلقية ، ومضطجعة ، إذا كان في موضع الحرث ، وأنشد ثعلب :

إنما الأرحام أرضو *** ن لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها *** وعلى الله النبات

وإنما عبر سبحانه بقوله : { أنّى } لكونها أعم في اللغة من كيف ، وأين ، ومتى . وأما سيبويه ، ففسرها ها هنا ب " كيف " ، وقد ذهب الخلف والسلف ، من الصحابة ، والتابعين ، والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية ، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام ، وروي عن سعيد بن المسيب ، ونافع ، وابن عمر ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك ، حكاه عنهم القرطبي في تفسيره قال : وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى : «كتاب السر » وحذاق أصحاب مالك ، ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ ، ووقع هذا القول في العُتْبِيَّة . وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة ، والتابعين ، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب : «جماع النسوان وأحكام القرآن » وقال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال : يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكُمْ } ثم قال : فأي شيء أبين من هذا .

وقد روى الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك . وفي أسانيدها ضعف . وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ، ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال . وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب . قال ابن الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا الله هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك ، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه .

قوله : { وَقَدّمُوا لاأنفُسِكُمْ } أي : خيراً كما في قوله تعالى : { وَمَا تُقَدّمُوا لأنْفُسِكُم منْ خَيْرٍ تَجِدُوا عَندَ الله } [ البقرة : 110 ] وقيل : ابتغاء الولد . وقيل : التزويج بالعفائف . وقيل : غير ذلك . وقوله : { واتقوا الله } فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرّمات . وفي قوله : { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } مبالغة في التحذير . وفي قوله : { وَبَشّرِ المؤمنين } تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر .

/خ223