الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

فيه مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " نساؤكم حرث لكم " روى الأئمة واللفظ للمسلم عن جابر بن عبد الله قال : ( كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها كان الولد أحول ) ، فنزلت الآية " نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " زاد في رواية عن الزهري : إن شاء مُجّبِّيَةً{[2029]} وإن شاء غير مُجّبِّيَةٍ غير إن ذلك في صمام واحد . ويروى : في سمام واحد بالسين ، قاله الترمذي . وروى البخاري عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه ، فأخذت عليه يوما{[2030]} ، فقرأ سورة " البقرة " حتى انتهى إلى مكان قال : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا ، قال : نزلت في كذا وكذا ، ثم مضى . وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي قال حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال : يأتيها في{[2031]} . قال الحميدي : يعني الفرج . وروى أبو داود عن ابن عباس قال : ( إن ابن عمر والله يغفر له وهِم ، إنما كان هذا الحي من الأنصار ، وهم أهل وثن ، مع هذا الحي من يهود ، وهم أهل كتاب ، وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألا يأتوا النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا{[2032]} منكرا ، ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار ، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ! فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني ، حتى شري{[2033]} أمرهما ) ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل : " فأتوا حرثكم أنى شئتم " ، أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد . وروى الترمذي عن ابن عباس قال : ( جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكت ! قال : ( وما أهلكك ؟ ) قال : حولت رحلي الليلة ، قال : فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، قال : فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ) قال : هذا حديث حسن صحيح{[2034]} . وروى النسائي عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر : قد أكثر عليك القول . إنك تقول عن ابن عمر : ( أنه أفتى بأن يؤتى النساء في أدبارهن ) . قال نافع : لقد كذبوا علي ! ولكن سأخبرك كيف كان الأمر : إن ابن عمر عرض علي المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ : " نساؤكم حرث لكم " ، قال نافع : هل تدري ما أمر هذه الآية ؟ إنا كنا معشر قريش نُجَبِّي{[2035]} النساء ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن ما كنا نريد من نسائنا ، فإذا هن قد كرهن ذلك وأعظمنه ، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله سبحانه : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " .

الثانية : هذه الأحاديث نص في إباحة الحال والهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث ، أي كيف شئتم من خلف ومن قدام وباركة ومستلقية ومضطجعة ، فأما الإتيان في غير المأتى فما كان مباحا ، ولا يباح ! وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم . و " حرث " تشبيه ، لأنهن مزدرع الذرية ، فلفظ " الحرث " يعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع . وأنشد ثعلب :

إنما الأرحام أر *** ضون لنا محترثات

فعلينا الزرع فيها *** وعلى الله النبات

ففرج المرأة كالأرض ، والنطفة كالبذر ، والولد كالنبات ، فالحرث بمعنى المحترث . ووحد الحرث لأنه مصدر ، كما يقال : رجل صوم ، وقوم صوم .

الثالثة : قوله تعالى : " أنى شئتم " معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى : من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة ، كما ذكرنا آنفا . و " أنى " تجيء سؤالا وإخبارا عن أمر له جهات ، فهو أعم في اللغة من " كيف " ومن " أين " ومن " متى " ، هذا هو الاستعمال العربي في " أنى " . وقد فسر الناس " أنى " في هذه الآية بهذه الألفاظ . وفسرها سيبوبه ب " كيف " ومن " أين " باجتماعهما . وذهبت فرقة ممن فسرها ب " أين " إلى أن الوطء في الدبر مباح ، وممن نسب إليه هذا القول : سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبدالملك بن الماجشون ، وحكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى " كتاب السر " . وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجل من أن يكون له " كتاب سر " . ووقع هذا القول في العتبية . وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز هذا القول إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين ، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب " جماع النسوان وأحكام القرآن " . وقال الكيا الطبري : وروي عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا ، ويتأول فيه قول الله عز وجل : " أتأتون الذكران من العالمين . وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " {[2036]} . وقال : فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم ، ولو لم يبح مثل ذلك من الأزواج لما صح ذلك ، وليس المباح من الموضع الآخر مثلا له ، حتى يقال : تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح . قال الكيا : وهذا فيه نظر ، إذ معناه : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مما فيه تسكين شهوتك ، ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعا ، فيجوز التوبيخ على هذا المعنى . وفي قوله تعالى : " فإذا تطهرن فأتوا من حيث أمركم الله " مع قوله : " فأتوا حرثكم " ما يدل على أن في المأتى اختصاصا ، وأنه مقصور على موضع الولد .

قلت : هذا هو الحق في المسألة . وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر أن العلماء لم يختلفوا في الرَّتْقَاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب ترد به ، إلا شيئا جاء عن عمر بن عبدالعزيز من وجه ليس بالقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها ، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك ، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح ، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ، ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج . وفي إجماعهم أيضا على أن العقيم التي لا تلد لا ترد . والصحيح في هذه المسألة ما بيناه . وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك ؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث ، لقوله تعالى : " فأتوا حرثكم " ، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل ، فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح ، وهذا هو الحق . وقد قال أصحاب أبي حنيفة : إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم ؛ ولأن القذر والأذى في موضع النجو{[2037]} أكثر من دم الحيض ، فكان أشنع . وأما صمام البول فغير صمام الرحم . وقال ابن العربي في قبسه : قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه : الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين ، وأخرج يده عاقدا بها . وقال : مسلك البول ما تحت الثلاثين ، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة ، وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة . فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة . وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك ، فنفر من ذلك ، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال : كذبوا علي ، كذبوا علي ، كذبوا علي ! ثم قال : ألستم قوما عربا ؟ ألم يقل الله تعالى : " نساؤكم حرث لكم " وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت{[2038]} ! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل : " أنى شئتم " شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها ، إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة ، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ، ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده ، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم . وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه " تحريم المحل المكروه " . ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه ( إظهار إدبار ، من أجاز الوطء في الأدبار ) .

قلت : وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه . وقد حذرنا من زلة العالم . وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا ، وتكفير من فعله ، وهذا هو اللائق به رضي الله عنه . وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك ، كما ذكر النسائي ، وقد تقدم . وأنكر ذلك مالك واستعظمه ، وكذب من نسب ذلك إليه . وروى الدارمي أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري حين أحمض{[2039]} بهن ؟ قال : وما التَّحْمِيض ؟ فذكرت له الدبر ، فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ! وأسند عن خزيمة بن ثابت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ) . ومثله عن علي بن طلق . وأسند عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ) وروى أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تلك اللوطية الصغرى ) يعني إتيان المرأة في دبرها . وروي عن طاوس أنه قال : كان بدء عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن . قال ابن المنذر : وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه .

الرابعة : قوله تعالى : " وقدموا لأنفسكم " أي قدموا ما ينفعكم غدا ، فحذف المفعول ، وقد صرح به في قوله تعالى : " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " {[2040]} . فالمعنى قدموا لأنفسكم الطاعة والعمل الصالح . وقيل ابتغاء الولد والنسل ؛ لأن الولد خير الدنيا والآخرة ، فقد يكون شفيعا وجنة . وقيل : هو التزوج بالعفائف ، ليكون الولد صالحا طاهرا . وقيل : هو تقدم{[2041]} الإفراط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم ) الحديث . وسيأتي في " مريم " {[2042]} إن شاء الله تعالى . وقال ابن عباس وعطاء : أي قدموا ذكر الله عند الجماع ، كما قال عليه السلام : ( لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره شيطان أبدا ) . أخرجه مسلم .

الخامسة : قوله تعالى : " واتقوا الله " تحذير " واعلموا أنكم ملاقوه " خبر يقتضي المبالغة في التحذير ، أي فهو مجازيكم على البر والإثم . وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يقول : ( إنكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا{[2043]} ) - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه " . أخرجه مسلم بمعناه .

السادسة : قوله تعالى : " وبشر المؤمنين " تأنيس لفاعل البر ومبتغي سنن الهدى .


[2029]:- مجبية: أي منكبة على وجهها، تشبيها بهيئة السجود.
[2030]:- أخذت عليه: أي أمسكت المصحف وهو يقرأ عن ظهر قلب.
[2031]:- بحذف المجرور، راجع شرح البخاري في تفسير الآية، ففيه كلام عن هذا الحذف.
[2032]:- شرح الرجل جاريته: إذا وطئها نائمة على قفاها.
[2033]:- شري أمرها (من باب رضي): عظم وتفاقم ولجوا فيه.
[2034]:- الذي في صحيح الترمذي: "حسن غريب".
[2035]:- تقدم معنى "التجبية" ص 91 من هذا الجزء.
[2036]:- آية 165 سورة الشعراء.
[2037]:- النجو: ما يخرج من البطن من ريح وغائط.
[2038]:- في ب: "النبت".
[2039]:- التحميض: أن يأتي الرجل المرأة في غير مأتاها الذي يكون موضع الولد.
[2040]:- آية 110 سورة البقرة.
[2041]:- الأفراط (جمع فرط): هم الأولاد الذين ماتوا قبل أن يبلغوا الحلم.
[2042]:- راجع جـ 11 ص 135.
[2043]:- الغرل (بضم فسكون جمع الأغرل): وهو الأقلف الذي لم يختن.