محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم وقدّموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشّر المؤمنين 223 } .

{ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم } روى الشيخان{[1275]} عن جابر قال : ( كانت اليهود تقول : إذا أتيت المرأة من دبرها في قبلها ثم حملت كان ولدها أحول . قال : فأنزلت { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم } .

/ وعند مسلم عن الزهريّ : ( إن شاء مجبيِّة ، وإن شاء غير مجبية ، غير أن ذلك في صمام واحد ) .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : هذه الزيادة يشبه أن تكون من تفسير الزهريّ ، لخلوّها من رواية غيره من أصحاب ابن المنكدر ، مع كثرتهم .

و ( المجبيِّة ) كملبيّة : المنكبّة على وجهها . و( الصمام الواحد ) : الفرج . وقوله تعالى : { حرث لكم } الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، هذا أصله ؛ والكلام إما بحذف المضاف ، أي مواضع حرث ، أو المصدر بمعنى المفعول أي : محروثات . وإنما شُبِّهن بذلك لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة . من حيث إن كلا منها مادة لما يحصل منه . ولما عبّر تعالى عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان كما تقدم ، فقال { فأتوا حرثكم أنّى شئتم } أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أي جهة شئتم ، لا تحظر عليكم جهة دون جهة . والمعنى : جامعوهن من أي جهة شئتم ولا تبالوا بقول اليهود . وفي تخصيص ( الحرث ) بالذكر تعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه .

قال الزمخشريّ : وقوله تعالى : { هو أذى فاعتزلوا النساء من حيث أمركم الله فأتوا حرثكم أنّى شئتم } . من الكنايات اللطيفة ، والتعريضات المستحسنة . وهذه وأشباهها في كلام الله آداب حسنة ، على المؤمنين أن يتعلموها ، ويتأدّبوا بها ، ويتكلّفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم .

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية رواية أخرى أخرجها أبو داود{[1276]} والحاكم عن ابن عباس قال : ( كان هذا الحي من الأنصار ( وهم أهل وثن ) مع هذا الحي من يهود ( وهم أهل كتاب ) كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم . وكان من أمر أهل الكتاب أنهم لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة . فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم . وكان هذا الحي من قريش / يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذذون منهن مُقْبلات ومُدْبرات مستلقيات . فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار . فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف . فاصنع ذلك ، وإلا فاجتنبني . حتى سرى أمرهما . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي : مقبلات ومدبرات ومستلقيات ، يعني بذلك موضع الولد ) .

تنبيه :

ما ذكرناه من الروايات هو المعوّل عليه عند المحققين .

وثمت روايات أخر تدل على أن هذه الآية إنما أنزلت رخصة في إتيان النساء في أدبارهن .

قال الطحاويّ : روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال : ( ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال ( يعني وطء المرأة في دبرها ) ثم قرأ { نساؤكم حرث لكم } ثم قال : فأيّ شيء أبين من هذا ؟ ) هذه حكاية الطحاويّ نقلها ابن كثير .

وقال الحافظ ابن حجر في ( تخريج أحاديث الرافعيّ ) : قال ابن القاسم : ( ولم أدرك أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه . والمدنيّون يروون فيه الرخصة عن النبي صلى الله عليه وسلم ) . يشير بذلك إلى ما روي عن ابن عمر وأبي سعيد .

أما حديث ابن عمر فله طرق . رواه عنه نافع ، وعبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وزيد بن أسلم . وسعيد بن يسّار . وغيرهم .

أمّا نافع فاشتهر عنه من طرق كثيرة جدا . منها رواية مالك ، وأيوب ، وعبيد الله بن عمر العمريّ ، وابن أبي ذئب ، وعبد الله بن عون ، وهشام بن سعد ، وعمر بن محمد بن زيد ، وعبد الله بن نافع ، وأبان بن صالح ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة .

قال الدارقطنيّ ، في أحاديث مالك التي رواها خارج ( الموطّأ ) : نا أبو جعفر الأسوانيّ المالكيّ بمصر . ثنا محمد بن أحمد بن حمّاد ، نا أبو الحرث أحمد بن سعيد الفهريّ ، نا أبو ثابت حمد بن عبيد الله . حدثنا الدراورديّ عن عبيد الله بن عمر بن حفص عن نافع قال : قال لي ابن عمر : ( أمسك عليّ المصحف يا نافع . فقرأ حتى أتى على هذه الآية { نساؤكم حرث لكم . . . } فقال : تدري يا نافع فيمن أنزلت هذه الآية ؟ قال قلت : لا ؟ قال ، فقال لي : في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها ، فأعظم الناس ذلك ، فأنزل الله تعالى : { نساؤكم حرث لكم . . . } الآية قال نافع : فقلت لابن عمر : من دبرها في قبلها ؟ قال : لا ، إلا في دبرها ) .

قال أبو ثابت : وحدثني به الداورديّ عن مالك وابن أبي ذئب . وفيهما عن نافع مثله .

وفي تفسير البقرة من ( صحيح البخاري ) : نا إسحق ، أنا النضر ، أنا ابن عون عن نافع قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه . فأخذت عليه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان ، فقال : تدري فيم أنزلت ؟ فقلت : لا ! قال : نزلت في كذا وكذا . ثم مضى ) .

وعن عبد الصمد : حدثني أبي يعني عبد الوارث حدثني أيوب عن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى : { نساؤكم حرث لكم } قال : يأتيها في . . . قال : ورواه محمد بن يحيى بن سعيد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عمر ؛ عن نافع ، عن ابن عمر . هكذا وقع عنده .

والرواية الأولى في ( تفسير إسحق بن راهويه ) مثل ما ساق ، لكن عيّن الآية وهي { نساؤكم حرث لكم } وعيّن قوله كذا وكذا . فقال : ( نزلت في إتيان النساء في أدبارهن ) . وكذا رواه الطبريّ من طريق ابن علية عن ابن عون . وأما رواية عبد الصمد فهي في تفسير إسحق أيضا عنه ، وقال فيه : ( يأتيها في الدبر ) .

وأما رواية محمد : فأخرجها الطبراني في ( الأوسط ) عن علي بن سعيد ، عن أبي بكر الأعين ، عن محمد بن يحيى بن سعيد بلفظ : ( إنما أنزلت { نساؤكم حرث لكم } رخصة في إتيان الدبر ) . وأخرجه الحاكم في ( تاريخه ) من طريق عيسى بن مثرود عن / عبد الرحمن بن القاسم . ومن طريق سهل بن عمار عن عبد الله بن نافع . ورواه الدارقطنيّ في ( غرائب مالك ) من طريق زكريا الساجي عن محمد بن الحرث المدنيّ عن أبي مصعب . ورواه الخطيب في ( الرواة ) عن مالك من طريق أحمد بن الحكم العبديّ . ورواه أبو إسحق الثعلبيّ في ( تفسيره ) والدارقطنيّ أيضا من طريق إسحق بن محمد الفرويّ . ورواه أبو نعيم في ( تاريخ أصبهان ) من طريق محمد بن صدقة الفدكيّ ، كلهم عن مالك . قال الدراقطني : هذا ثابت عن مالك .

وأما زيد بن أسلم : فروى النسائي والطبري من طريق أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عنه ، عن ابن عمر : ( أن رجلا أتى امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد من ذلك وجدا شديدا ، فأنزل الله عز وجل { نساؤكم حرث لكم . . . } الآية ) .

وأما عبيد الله بن عبد الله بن عمر : فروى النسائيّ من طريق يزيد بن رومان عنه : ( أن ابن عمر كان لا يرى به بأسا ) . موقوف .

وأما سعيد بن يسّار : فروى النسائي والطحاويّ والطبريّ من طريق عبد الرحمن بن القاسم قال : قلت لمالك : إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن الحرث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال : ( قلت لابن عمر : إنا نشتري الجواري فنحمض لهن ( والتحميض : الإتيان في الدبر ) فقال : أفّ ! أو يفعل هذا مسلم ؟ ) قال ابن القاسم : فقال لي مالك : أشهد على ربيعة لحدّثني عن سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال : ( لا بأس به ) .

وأما حديث أبي سعيد : فروى أبو يعلى وابن مردويه في ( تفسيره ) والطبري والطحاوي من طرق : عن عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ : ( أن رجلا أصاب امرأة في دبرها فأنكر الناس ذلك عليه وقالوا : أثفرها ! فأنزل الله عز وجل : { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم } ) . ورواه أسامة بن أحمد التجيبيّ من طريق يحيى بن أيوب عن هشام بن سعد ، ولفظه : ( كنا / نأتي النساء في أدبارهن ويسمى ذلك الإثفار ، فأنزل الله الآية ) . ورواه من طريق معن بن عيسى عن هشام ولم يسمّ أبا سعيد قال : ( كان رجال من الأنصار . . . ) .

هذا ، وقد روي في تحريم ذلك آثار كثيرة نقلها الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) ، وابن حجر في ( تخريج أحاديث الرافعيّ ) . وكلها معلولة .

ولذا قال البزار : لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا ، لا في الحظر ولا في الإطلاق . وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه ، فغير صحيح .

وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبي عليّ النيسابوريّ ، ومثله عن النسائيّ ، وقاله قبلهما البخاري .

وحكى ابن عبد الحكم الشافعي أنه قال : لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شيء . والقياس أنه حلال .

وروى أحمد بن أسامة التجيبيّ من طريق معن بن عيسى قال : سألت مالكا عنه ، فقال : ما أعلم فيه تحريما .

وقال ابن رشد في كتاب ( البيان والتحصيل في شرح العتبية ) روى العتبيّ عن ابن قاسم عن مالك أنه قال له وقد سأله عن ذلك مخليا به فقال : حلال ليس به بأس .

وأخرج الحاكم عن محمد بن عبد الحكم قال : قال الشافعيّ كلاما كلّم به محمد بن الحسن في مسألة إتيان المرأة في دبرها ، قال : سألني محمد بن الحسن فقلت له : إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم ، وإن تكلمت بالمناصفة كلّمتك . قال : على المناصفة . قلت : فبأي شيء حرمته ؟ قال : بقول الله عز وجل { فأتوهن من حيث أمركم الله } وقال : { فأتوا حرثكم أنّى شئتم } ، والحرث لا يكون إلا في الفرج قلت : أفيكون ذلك محرما لما سواه ؟ قال : نعم . قلت : فما تقول لو وطئها بين ساقيها ، أو في أعكانها ، أو تحت إبطها ، أو أخذت ذكره بيدها ، أو في ذلك حرث . . . ؟ قال : لا ! / قلت : أفيحرم ذلك ؟ قال : لا ! قلت : فلِمَ تحتج بما لا حجة فيه ؟ قال : فإن الله قال : { والذين هم لفروجهم حافظون . . . } الآية . قال : فقلت له : إن هذا مما يحتجون به للجواز أن الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه ، فقلت : أنت تتحفظ من زوجته وما ملكت يمينه . قال الحاكم : لعل الشافعيّ كان يقول بذلك في القديم . فأما في الجديد ، فالمشهور أنه حرمه . فقد روى الأصم عن الربيع : أن الشافعيّ نصّ على تحريمه في ستة كتب من كتبه . . وأخرج الحاكم عن الأصم عن الربيع قال : قال الشافعي قال الله { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم } احتملت الآية معنيين : أحدهما أن تُؤتَى المرأة من حيث شاء زوجها . لأن { أنى شئتم } يأتي بمعنى أين شئتم . ثانيهما أن ( الحرث ) إنما يراد به النبات في موضعه دون ما سواه . فاختلف أصحابنا في ذلك . فأحسب كلاًّ من الفريقين تأولوا ما وصفت من احتمال الآية . قال : فطلبنا الدلالة من السنة ، فوجدنا حديثين مختلفين : أحدهما ثابت ؛ وهو حديث خزيمة في التحريم . قال : فأخذنا به .

وعليه ، فيكون الشافعيّ رجع عن القديم . وحديث خزيمة رواه الشافعيّ وأحمد والنسائيّ وابن ماجة{[1277]} وابن حبّان وأبو نعيم بالسند إلى خزيمة بن ثابت : ( أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال : حلال . فلما ولّى الرجل دعاه أو أمر به فدُعي فقال : كيف قلت ؟ في أيّ الخرزتين ؟ أمن دبرها في قبلها ؟ فنعم ! أم من دبرها في دبرها فلا ! إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن ) .

قال الحافظ ابن حجر في ( التلخيص الحبير ) : وفي إسناده عمرو بن أحيحة . وهو مجهول الحال . واختلف في إسناده اختلافا كثيرا . ثم قال الحافظ : وقد قال الشافعيّ : / غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة يعني حيث رواه . وتقدم قول البزار : وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت ، من طريق فيه ، فغير صحيح .

وقال الرازي في ( تفسيره ) : ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية : أن الرجل مخيَّر بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها . فقوله : { أنى شئتم } محمول على ذلك . ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : ( المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن ) . وهذا قول مالك . واختيار السيد المرتضى من الشيعة . والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه .

وبالجملة : فهذا المقام من معارك الرجال ، ومجاول الأبطال . وقد استفيد مما أسلفناه : أن من جوّز ذلك وقف مع لفظ الآية . فإنه تعالى جعل الحرث اسما للمرأة . قال بعض المفسرين : إن العرب تسمي النساء حرثا . قال الشاعر :

إذا أكل الجراد حروث قومٍ*** فحرثي همّه أكل الجراد

يريد : امرأتي . وقال آخر :

إنما الأرحام أرض*** ولنا محترثات

فقلبنا الزرع فيها ، *** وعلى الله النبات . . !

وحينئذ ، ففي قوله : { فأتوا حرثكم أنى شئتم } إطلاق في إتيانهن على الوجوه . فيدخل فيه محل النزاع . واعتمد أيضا من سبب النزول ما رواه البخاريّ عن ابن عمر كما تقدم . وقال في رواية جابر المرويّة في ( الصحيح ) المتقدمة : إن ورود العام على سبب لا يقصره عليه . وأجاب عن توهيم ابن عباس لابن عمر ، رضي الله عنهم ، المرويّ في ( سنن أبي داود ) بأن سنده ليس على شرط البخاريّ فلا يعارضه . فيقدّم الأصح سندا . ونظر إلى أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب حديث .

قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : ذهب جماعة من أئمة الحديث كالبخاري والذهليّ والبزّار والنسائيّ وأبي عليّ النيسابوريّ إلى أنه لا يثبت فيه شيء .

/ وأما من منع ذلك : فتأوّل الآيات المتقدمة على صمام واحد . ونظر إلى أن الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن تعاطيه ، وإن لم تكن على شرط الشيخين في الصحة ، إلا أن مجموعها صالح للاحتجاج به .

وقد استقصى الأحاديث الواردة في ذلك ، الحافظ الذهبيّ في جزء جمعه في ذلك . وساق جملة منها الحافظ ابن كثير في ( تفسيره ) وكذا الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) وقد هوّل عليه الرحمة في شأنه تهويلا عظيما . فقال في كتابه المذكور ، في الكلام على هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع ، ما نصه :

وأما الدبر ، فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء . ومن نسب إلى بعض السلف إباحة وطء الزوجة في دبرها فقد غلط عليه . ثم ساق أخبار النهي عنه وقال بعد : وقد دلت الآية على تحريم الوطء في دبرها من وجهين : أحدهما : أنه إنما أباح إتيانها في الحرث وهو موضع الولد ، لا في الحش الذي هو موضع الأذى . وموضع الحرث هو المراد من قوله : { من حيث أمركم الله . . . } الآية { فأتوا حرثكم أنى شئتم } وإتيانها في قبلها من دبرها مستفاد من الآية أيضا لأنه قال : { أنى شئتم } أي : من أين شئتم : من أمام أو من خلف : قال ابن عباس : { فأتوا حرثكم } يعني الفرج ؛ وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظن بالحش الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جدا من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان . وأيضا ، فللمرأة حق على الرجل في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوت حقها ، ولا يقضي وطرها ، ولا يحصل مقصودها . وأيضا فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ولم يخلق له ، وإنما الذي هيّئ له الفرج ؛ فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعا . وأيضا فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهى عنه عقلاء الأطباء من الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن ، وراحة الرجل منه ، والوطء في الدبر لا يعين على اجتذاب / جميع الماء ولا يخرج كل المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعي . . . وأيضا يضر من وجه آخر وهو إحواجه إلى حركات متعبة جدا لمخالفته للطبيعة . وأيضا فإنه محلّ القذر والنجو فيستقبله الرجل بوجهه ويلابسه . وأيضا فإنه يضر بالمرأة جدا ، لأنه وارد غريب بعيد عن الطباع منافر لها غاية المنافرة . وأيضا فإنه يحدث الهم والغم والنفرة عن الفاعل والمفعول . وأيضا فإنه يسود الوجه ، ويظلم الصدر ، ويطمس نور القلب ، ويكسو الوجه وحشة تصير عليه كالسيماء ، يعرفها من له أدنى فراسة . وأيضا ، فإنه يوجب النفرة والتباغض الشديد والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بد . وأيضا فإنه يفسد حال الفاعل والمفعول فسادا لا يكاد يرجى بعده صلاح . إلا أن يشاء الله بالتوبة النصوح . وأيضا فإنه يذهب بالمحاسن منهما ويكسوهما ضدهما . كما يذهب بالمودة بينهما ويبدلهما بها تباغضا وتلاعنا . وأيضا فإنه من أكبر أسباب زوال النعم وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه فأي خير يرجوه بعد هذا ؟ وأي شر يأمنه ؟ وكيف حياة عبد قد حلّت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ولم ينظر إليه ؟

أقول : أخذ هذا ابن القيم من أحاديث وردت في لعن فاعل ذلك ، وعد نظر الحق إليه . بيد أنها ضعيفة{[1278]} .

/ ثم قال ابن القيم : وأيضا فإنه يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب استحسن القبيح واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده . وأيضا فإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركب الله عليه شيئا من الحيوان بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكسَ الطبع انتكس القلب والعمل والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والأفعال والهيئات ويفسد حاله وعمله وكلامه بغير اختياره . وأيضا فإنه يورث من الوقاحة والجراءة ما لا يورثه سواه . وأيضا فإنه يورث من المهانة والسّفال والحقارة ما لا يورثه غيره . وأيضا فإنه يكسو العبد من حلّة المقت والبغضاء وازدراء الناس له ، واحتقارهم إياه ، واستصغارهم له ما هو مشاهد بالحس . فصلوات الله وسلامه على من سعادةُ الدنيا والآخرة في هديه واتباع ما جاء به . وهلاكُ الدنيا والآخرة في مخالفة هديه وما جاء به . اه .

ولما اشتملت هذه الآية على الإذن في قضاء الشهوة ، نبه على أن لا يكون المرء في قيدها بل في قيد الطاعة ، فقال تعالى : { وقدّموا لأنفسكم } أي : ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة لتنالوا به الجنة والكرامة ، كقوله : { وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى } واتقوا الله فلا تجترئوا على المعاصي { واعلموا أنكم ملاقوه } صائرون إليه فاستعدّوا / للقائه { وبشّر المؤمنين } بالثواب . وإنما حذف لكونه كالمعلوم ، فصار كقوله : { وبشّر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } {[1279]} .


[1275]:أخرجه البخاري في: 65 ـ كتاب التفسير، 2 ـ سورة البقرة، 39 ـ باب {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم وقدّموا لأنفسكم...} الآية، حديث 1977. ومسلم في: 16 ـ كتاب النكاح، حديث 117 (طبعتنا).
[1276]:أخرجه أبو داود في: 12 ـ كتاب النكاح، 45 ـ باب في جامع النكاح، حديث 2164.
[1277]:أخرجه أحمد في مسنده بالصفحة 213 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي). وابن ماجة في:9 ـ كتاب النكاح، 29 ـ باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، حديث 1924 (طبعتنا).
[1278]:أقول أنا: ليس الأمر كذلك. فقد أخرج ابن ماجة في: 9 كتاب النكاح، 29 ـ باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، حديث 1923 (طبعتنا) هذا الحديث ونصه: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها). في الزوائد: إسناده صحيح. لأن الحارث بن مخلد (أحد رجال السند) ذكره ابن حبّان في الثقات. وباقي رجال الإسناد ثقات. قال السنديّ: والحديث قد رواه أبو داود والترمذي بلفظ قريب من هذا. ورواه أيضا الدارمي في سننه في: 1 ـ كتاب الوضوء، 114 ـ باب من أتى امرأته في دبرها. وأخرج الترمذي في جامعه في: 44 ـ كتاب التفسير، 2 ـ سورة البقرة، 27 ـ باب حدثنا عبد بن حميد، هذا الحديث ونصه: عن ابن عباس قال: (جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت. قال وأما أهلكك؟ قال: حولت رحلي الليلة. قال فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا. قال فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم}. أقبلْ وأدبرْ. واتق الدبر والحيضة). قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب.
[1279]:[33/ الأحزاب/ 47].