اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

{ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، ولا بدَّ من تأويلٍ ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر ، فقيل : على المبالغة ، جُعلوا نفس الفعل ، وقيل : أراد بالمصدر ، اسم المفعول ، وقيل : على حذف مضافٍ من الأوَّل ، أي : وطء نسائكم حرثٌ ، أي : كحَرْثٍ ، وقيل : من الثاني ، أي : نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ ، و " لَكُمْ " في موضع رفعٍ ؛ لأنه صفةٌ ل " حَرْث " ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وإنما أفرد الخبر ، والمبتدأ جمعٌ ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد .

قوله : { أَنَّى شِئْتُمْ } ، ظرف مكانٍ ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى " مَتَى " ، فيكون ظرف زمانٍ ، ويكون بمعنى " كَيْفَ " ، وبمعنى " مِنْ أَيْنَ " ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلٍّ من هذه الوجوهِ ، وقال النحويون : " أَنَّى " لتعميم الأحوال ، وقال بعضهم : إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ " كَيْفَ " ، ومِنْ " أَيْنَ " ، ومِنْ " مَتَى " ، وقالوا : إذا كانت شرطيةً ، فهي ظرف مكانٍ فقط ، واعمل أنها مبنيةٌ ؛ لتضمُّنها : إمَّا معنى حرف الشرط ، والاستفهام ، وهي لازمة النصبِ على الظرفية ، والعامل فيها هنا قالوا : الفعل قبلها وهو : " فَأْتُوا " قال أبو حيان : وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً ؛ لوجهين :

أحدهما : من جهة المعنى ، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً ، كانت ظرف مكانٍ ، كما تقدَّم ؛ وحينئذٍ : يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل ، وقد ثبت تحريم ذلك .

والثاني : من جهة الصناعة ، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله ؛ لأنَّ له صدر الكلام ، بل يعمل فيه فعل الشرط ؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم ، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً ؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ؛ لأنَّ له صدر الكلام ، ولأنَّ " أَنَّى " إذا كانت استفهاميةً ، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم ، نحو : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام :101 ] { أَنَّى لَكِ هَذَا } [ آل عمران :27 ] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى ، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر .

ثم الذي يظهر : أنها هنا شرطيةٌ ، ويكون قد حذف جوابها ؛ لدلالة ما قبله عليه ، تقديره : أنَّى شئتم ، فأتوه ، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف ، وأُجريت مجراها ، تشبيهاً للحال بظرف المكان ؛ ولذلك تقدَّر ب " في " ، كما أُجريت " كَيْفَ " الاستفهامية مجرى الشرط في قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ المائدة :64 ] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً ؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله : " يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ " ، أي : كيف يشاء يُنْفِق ، وهكذا كل موضعٍ يشبهه ، وسيأتي له مزيد بيانٍ ، فإن قلت : قد أخرجت " أنَّى " عن الظرفية الحقيقية ، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل " كَيْفَ " وقلت : إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط ، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزمٍ ، اعتباراً بكونها شرطيةً ، أو في محلِّ رفع ، كما تكون كذلك بعد " كَيْفَ " التي تستعمل شرطية ؟ قلت : تحتمل الأمرين ، والأرجح الأول ؛ لثبوت عمل الجزم ؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف ، للعلاقة المذكورة ، وهو تقدير " في " في كلٍّ منهما . ولم يجزم ب " كَيْفَ " إلا بعضهم قياساً لا سماعاً ، ومعفول " شِئْتُمْ " محذوفٌ ، أي : شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح .

فصل في بيان سبب النزول

" روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول ؛ قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، هلكت . قال : وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ ؟ قال : حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً ، فَأُوحي إليه : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } ، يقول : أقبل ، وأدبر ، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ " {[3503]} .

وروى جابر بن عبد الله ؛ قال : كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها : إن الولد يكون أحولاً ، فنزلت هذه الآية{[3504]} .

وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ ؛ قال : كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات ، ومدبراتٍ ، ومستلقياتٍ ، فلما قدم المهاجرون المدينة ، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار ، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه ، وقالت : إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي ، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم ، فَأنزلَ الله عزَّ وجلَّ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يعني : موضع الولد ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } مُقْبِلاتٍ ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ{[3505]} .

فصل

قال عكرمة والحسن : " أَنَّى شِئْتُمْ " إنما هو الفَرْجُ{[3506]} .

وقوله : " حَرْثٌ لَكُم " أي : مَزْرَعٌ لكم ، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض ، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار ؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر ؛ وأنشد ثعلبٌ : [ الرمل ]

إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو *** نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ

فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا *** وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ{[3507]}

وقال سعيد بن المسيَّب : هذا في العزل ، يعني : إن شئتم فاعزلوا ، وإن شئتم فلا تعزلوا{[3508]} ، سئل ابن عبَّاس عن العزل ؛ فقال : حرثُكَ ، فإن شئتَ فعطِّش ، وإن شئت فَارْوِ{[3509]} .

ورُوي عنه ؛ أنَّه قال : تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل ، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية{[3510]} ، وكره جماعة العزل ، وقالوا : هو الوَأْدُ الخفيّ .

وروى مالك عن نافع ؛ قال : كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ ، فقرأْتُ هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } فقال : تدْري فيما نزلت ؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها ، فشقَّ ذلك عليه ، فنزلت هذه الآية{[3511]} . ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه{[3512]} .

وروي عن عبد الله بن الحسن ؛ أنه لقي سالم بن عبد الله ، فقال له : يا أبا عمر ؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبد الله ؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ ، قال : كذب العبدُ وأخْطَأَ ، إنما قال عبد الله : يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ{[3513]} ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ : ما روى خُزيمة بن ثابتٍ ؛ " أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ ، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام : " حَلاَلٌ " فلما ولَّى الرَّجل دعاه ، فقال : " كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين ، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا ؟ فَنَعَمْ ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا ، فَلاَ ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ " {[3514]} .

وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة : عروة المزادة . شبِّه بالثّقب بها ، والخرزة هي : الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا " {[3515]} وقال تعالى في آيةِ المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } [ البقرة :222 ] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم ، وهذه العلَّة هنا أظهر ؛ فوجب القول بتحريمه .

وروي عن أبي هريرة ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ " {[3516]} .

وروى أبو داود الطَّيالسي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا " {[3517]} .

وعن طاوس ؛ قال : إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها . واحتج من جوَّزَهُ بوجوه :

الأول : التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين :

أحدهما : أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن ، فلمَّا قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } كان المراد : فأتوا نساءكم أنى شئتم ، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه .

وثانيهما : كلمة " أَنَّى " معناها : أين ؛ قال تعالى : { أَنَّى لَكِ هَذَا } [ آل عمران :37 ] ، معناه : من أين لك هذا ، فصار تقدير الآية : فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم ، وكلمة " أَيْنَ " تدلُّ على تعدُّد الأمكنة ؛ تقول : اجلِس أيْن شِئْتَ ، فيكون تخييراً بين الأمكنة .

وإذا ثبت هذا ، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها ، أو من دبرها في قُبُلِها ؛ لأنه على هذا التَّقدير ، يكون المكان واحداً ، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان ، فاللاَّئق به أن نقول : اذهبوا إليه كيف شئتم ، فلمَّا لم يذكر كيف ، بل ذكر لفظة " أَنَّى " وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا ، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا .

الحجة الثانية : تمسَّكوا بعموم قوله تعالى : { إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون :6 ] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على العموم .

الحجة الثالثة : لو قال للمرأة : دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ ، ونوى الطَّلاق ، أنه يكون طلاقاً ، فيقتضي كون دبرها حلالاً له .

والجواب عن الأوَّل : أن " الحَرْثَ " اسمٌ لموضع الحراثة ، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم ، فلما أطلق لفظ " الحَرْثِ " على ذات المرأَة ، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه ، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله : " فَأْتُوا حَرْثَكُمْ " فوجب حَمْلُ الحرث هاهنا على موضع الحراثة على التَّعيين ؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث ، وقد قدَّمنا أن " الحَرْثَ " إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد ، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى .

وعن الثَّاني : أنه لما ثبت أن المراد ب " الحَرْثِ " ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل " أَنَّى شِئْتُمْ " على التَّخْيير في الأمكنة .

وأما قوله : { إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون :6 ] فإنه عامٌّ ، ودلائلنا خاصَّةٌ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام .

وقولهم : دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق ، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة ، وهو جزؤها ، فصار ذلك كقوله : يدك طالقٌ .

هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة : فقد بينَّا أنَّ قوله : " قُلْ هُوَ أَذًى " يدلُّ على التَّحريم ؛ لوجود العلَّة المقتضية له ، فلو جوَّزنا ذلك ، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم ، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ ، والأصل أنَّه لا يجوز ، وأيضاً فالرِّوايات المشهورة في كون سبب النُّزول ، هو اختلافهم في أنَّهُ : هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن ؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية ، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب .

ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب ، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً ، وهو كثير .

قوله : " وَقَدِّمُواْ " مفعوله محذوفٌ ، أي : نيَّةَ الولدِ ، أو نيةَ الإعفاف ، وذِكْرَ اللهِ أو الخير ؛ كقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ البقرة :110 ] .

وقال عطاء عن ابن عبَّاس : هي التَّسمية عند الجماع{[3518]} .

قال ابن الخطيب{[3519]} : وهذا في غاية البُعدِ : والَّذِي عندي فيه : أن قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ ؛ كأنه قيل : هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم ؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم ، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن ، ثم قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } ولا تأتوا غير موضع الحرث ؛ فكان قوله : " فأتوا حرثكم " دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع ، والمنْع من غير ذلك المَوضع ، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين ، والمنع من الموضع الآخِر ، لا جرم قال : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ ، ثم إنه تعالى أكَّدَ ذلك بقوله : { وَاتَّقُواْ اللهَ } ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله : { وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية ، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى ، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه ؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ ، ما ذهب إليه الجمهور .

قوله : " لأَنْفُسِكُمْ " مُتعلِّقٌ ب " قَدِّمُوا " ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ ، والهاءُ في " مُلاَقُوهُ " يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى ، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ ، أي : ملاقوا جزائِهِ ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ " قَدِّمُوا " المحذوف . وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى ، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ } [ البقرة :46 ] .

والضميرُ في " وَبَشِّرِ " للرَّسُول عليه الصلاة والسلام لتقدُّم ذِكرِه في قوله : " يَسْأَلُونَكَ " قاله أبو البقاء{[3520]} ، وفيه نظرٌ ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما : تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما ، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة .


[3503]:- أخرجه أحمد (1/297) والترمذي (2984) والنسائي في "عشرة النساء" رقم (91) والحاكم (2/195) والبيهقي (7/198) والطبراني في "الكبير" (11/77) رقم (11097) وابن حبان (6/201) رقم (4190) والطبري في "تفسيره" (4/412-413) وأبو يعلى (5/121) رقم (2736). والحديث ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/262) وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" والضياء المقدسي في "المختارة" عن ابن عباس.
[3504]:- أخرجه البخاري (8/ 141، 143) ومسلم (كتاب النكاح باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها ومن ورائها) وابن ماجه (1/620) رقم (1925) والترمذي (5/200) رقم (2978) وأبو داود (1/656) رقم (2163) والبيهقي (7/194-195) والطبري في "تفسيره" (4/410) عن جابر. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/467) وعزاه لوكيع وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.
[3505]:- أخرجه أبو داود (2164) والحاكم (2/195، 279) والبيهقي (7/195-196) والطبري في "تفسيره" (4/409). وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" وزاد نسبته لابن راهويه وابن المنذر والطبراني.
[3506]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/471) عن عكرمة بمعناه وعزاه لابن أبي شيبة والخرائطي في "مساوئ الأخلاق".
[3507]:- ينظر: البحر المحيط 2/180.
[3508]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/408) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/476) وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
[3509]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور": (1/477) وعزاه لعبد الرزاق عن ابن عباس.
[3510]:- أخرجه البيهقي (7/231) وعبد الرزاق كما في "الدر المنثور" (1/477)
[3511]:- أخرجه الدارقطني ودعلج كلاهما في "غرائب مالك" من طريق أبي مصعب وإسحاق بن محمد الفروي كلاهما عن نافع عن ابن عمر كما في "الدر المنثور" (1/475).
[3512]:- وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرؤون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث؛ لقوله تعالى: {فأتوا حرثكم}؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل؛ فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح، وهذا هو الحق. وقد قال أصحاب أبي حنيفة: إنه عندنا ولائط الذكر سواء في الحكم؛ ولأن القذر والأذى في موضع النجو أكثر من دم الحيض، فكان أشنع. وأما صمام البول فغير صمام الرحم. وقال ابن العربي في قبسه: قال لنا الشيخ الإمام فخر الإسلام أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه بشيء بخمسة وثلاثين؛ وأخرج يده عاقدا بها. وقال: مسلك البول ما تحت الثلاثين، ومسلك الذكر والفرج ما اشتملت عليه الخمسة؛ وقد حرم الله تعالى الفرج حال الحيض لأجل النجاسة العارضة، فأولى أن يحرم الدبر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعلي بن زياد لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك؛ فنفر من ذلك، وبادر إلى تكذيب الناقل فقال: كذبوا علي، كذبوا علي، كذبوا علي! ثم قال: ألستم قوما عربا؟ ألم يقل الله تعالى: {نساؤكم حرث لكم}؟ وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبث! وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل: {أنى شئتم} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها، إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة حسان وشهيرة رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيا بمتون مختلفة؛ كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار؛ ذكرها أحمد بن حنبل في مسنده، وأبو داود والنسائي والترمذي وغيرهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه". ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه "إظهار إدبار، من أجاز الوطء في الأدبار". قلت: وهذا هو الحق المتبع والصحيح في المسألة، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه. وقد حذرنا من زلة العالم. وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله؛ وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي، وقد تقدم. وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه. وروى الدارميّ أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحُبَاب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري حين أحمض بهن؟ قال: وما التَّحْميض؟ فذكرت له الدبر؛ فقال: هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! ينظر: تفسير القرطبي 3/63.
[3513]:- ينظر: تفسير البغوي 1/199.
[3514]:- أخرجه ابن ماجه (1924) وأحمد (5/213) والبيهقي (7/197) والنسائي (2/76) والدارمي (1/261) وابن حبان (1299 و1300) وابن الجارود (728) والشافعي (1619) والطحاوي (2/25). وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" (2/200) وقال: رواه ابن ماجه والنسائي بأسانيد أحدها جيد.
[3515]:- أخرجه أبو داود (2162) وأحمد (2/279) والبغوي في "شرح السنة" (5/83). وذكره الحافظ ابن حجر في "تلخيص الحبير" (3/180) وانظر كنز العمال (44883).
[3516]:- أخرجه ابن ماجه (1/619) كتاب النكاح باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن (1923). قال البوصيري في "الزوائد" (2/97): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات وأخرجه الترمذي (3/469) وابن حبان (1302- موارد) وابن أبي شيبة (4/251-252) وأبو يعلى (4/266) رقم (2378) عن ابن عباس وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
[3517]:- أخرجه أبو داود الطيالسي (1593-منحة) والبيهقي (7/198) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. وأخرجه البيهقي (7/198) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد كما في "الدر المنثور" (1/473) عن عبد الله بن عمرو موقوفا. وذكر القرطبي المرفوع في "تفسيره" (3/95).
[3518]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/417) عن ابن عباس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/478) عن ابن عباس وعطاء وزاد نسبته للخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن عطاء.
[3519]:- ينظر: تفسير الفخر الرازي 6/64.
[3520]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/94.