الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{نِسَآؤُكُمۡ حَرۡثٞ لَّكُمۡ فَأۡتُواْ حَرۡثَكُمۡ أَنَّىٰ شِئۡتُمۡۖ وَقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُمۡۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُم مُّلَٰقُوهُۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (223)

قولُه تعالى : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } : مبتدأٌ وخبرٌ . ولا بدَّ من تأويلٍ ليصحَّ الإِخبارُ عن الجثةِ بالمصدرِ . فقيل : على المبالغة ، جُعِلوا نفس الفعل . وقيل : أراد بالمصدر اسم المفعول . وقيل : عَلى حَذْفِ مضافٍ من الأولِ ، أي : وَطْءُ نسائِكم حَرْثٌ أي : كحَرْث ، وقيل : من الثاني أي : نساؤكم ذواتُ حَرْثٍ . و " لكم " في موضِع رفعٍ لأنه صفةٌ لحَرْث ، فيتعلَّق بمحذوفٍ . وإنما أفرد الخبرَ والمبتدأُ جمعٌ لأنه مصدرٌ والأفصحُ فيه الإِفرادُ والتذكيرُ حينئذٍ .

قوله : { أَنَّى شِئْتُمْ } " أنَّى " ظرفُ مكانٍ ، ويُسْتَعْمَلُ شرطاً واستفهاماً بمعنى " متى " ، فيكونُ ظرفَ زمانٍ ويكونُ بمعنى كيف ، وبمعنى مِنْ أين ، وقد فُسِّرت الآية الكريمةُ بكلٍّ من هذه الوجوهِ . وقال النحويون : " أنَّى " لتعميم الأحوال . وقال بعضُهم : إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهاتٌ ، فهي على هذا أعمُّ مِنْ " كيف " ومِنْ " أين " ومِنْ " متى " . وقالوا : إذا كانت شرطيةً فهي ظرفُ مكانٍ فقط . واعلم انها مبنيةٌ لتضمُّنها : إمَّا معنى حرفِ الشرطِ أو الاستفهامِ ، وهي لازمةُ النصب على الظرفيةِ . والعاملُ فيها هنا قالوا : الفعلُ قبلها وهو : " فأتوا " قال الشيخ : " وهذا لا يَصِحُّ ، لأنَّها : إمَّا/ شرطيةٌ أو استفهاميةٌ ، لا جائزٌ أن تكونَ شرطيةً لوجهين ، أحدُهما : من جهة المعنى وهو أنَّها إذا كانَتْ شرطاً كانت ظرف مكانٍ كما تقدَّم ، وحينئذ يقتضى الكلامُ الإِباحةَ في غير القُبُل وقد ثبت تحريمُ ذلك . والثاني : من جهةِ الصناعةِ . وهو أنَّ اسمَ الشرط لا يعملُ فيه ما قبله ، لأنَّ له صدرَ الكلام ، بل يعمل فيه فعلُ الشرط ، كما أنه عاملٌ في فعلِ الشرطِ الجزمَ . ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعملُ فيه ما قبلَه لأنَّ له صدرَ الكلام ، ولأنَّ " أنَّى " إذا كانَتْ استفهاميةً اكتفَتْ بما بعدَها من فعلٍ واسم نحو : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ]

{ أَنَّى لَكِ هَذَا } [ آل عمران : 37 ] وهذه في هذه الآية مفتقرةٌ لِما قبلَها كما ترى ، وهذا موضعٌ مُشْكِلٌ يَحْتَاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرِ .

ثم الذي يظهرُ أنها هنا شرطيةٌ ويكونُ قد حُذِف جوابُها : لدلالة ما قبله عليه ، تقديرُه : أنَّى شِئْتُم فَأْتُوه ، ويكون قد جُعِلَت الأحوالُ فيها جَعْلَ الظروفِ ، وأُجْرِيَتْ مُجراها تشبيهاً للحالِ بظرفِ المكانِ ولذلك تُقَدَّرُ ب " في " ، كما أُجْرِيت " كيف " الاستفهاميةُ مُجْرى الشرطِ في قولِهِ : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [ المائدة : 64 ] وقالوا : كيف تصنع أصنع ، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً ، فيكونُ ثَمَّ حَذْفٌ في قوله : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي : كيف يشاء ينفق ، وهكذا كلُّ موضعٍ يُشْبِهُه . وسيأتي له مزيدٌ بيانٍ . فإنْ قلتَ : قد أَخْرَجْتَ " أنَّى " عن الظرفيةِ الحقيقيةِ وجعلتَها لتعميمِ الأحوالِ مثل كيف ، وقلت : إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرطِ ، فهل الفعلُ بعدها في محلِّ جزمٍ اعتباراً بكونِها شرطيةً ، أو في محلِّ رفعٍ كما تكونُ كذلك بعد " كيف " التي تُسْتَعْمَل شرطية ؟ قلت : تَحْتَمِل الأمرين ، والأرجحُ الأولُ لثبوتِ عمل الجزم ، لأنَّ غايةَ ما في البابِ تشبيهُ الأحوالِ بالظروفِ للعلاقةِ المذكورةِ ، وهو تقديرُ " في " في كلٍّ منهما " .

ولم يَجْزِمْ ب " كيف " إلا بعضُهم قياساً لا سماعاً . ومفعولُ " شئتم " محذوفٌ أي : شِئْتُمْ إتيانَه بعد أن يكونَ في المحلِّ المُباح .

قوله : { وَقَدِّمُواْ } مفعولُه محذوفٌ أي : نيَّةَ الولدِ أو نيةَ الإِعفاف وذِكْرَ اللَّهِ أو الخيرِ ، كقولِهِ : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ البقرة : 110 ] و " لأنفسكم " متعلقٌ بقَدِّموا . واللامُ تحتملُ التعليلَ والتعدي . والهاءُ في " ملاقوه " يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : ملاقو جزائِه ، وأَن تعودَ على مفعولِ " قَدِّموا " المحذوفِ ، على حَذْفِ مضافٍ أيضاً أي : ملاقُو جزاءِ ما قَدَّمتم ، وأن تعودَ على الجزاءِ الدالِّ عليه مفعولُ " قَدِّموا " المحذوف .

والضميرُ في " وبَشِّر " للرسول عليه السلام لِجَرْي ذِكْرِه في قوله : { يَسْأَلُونَكَ } قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلم لا يَحْتَاج أَنْ يُقالَ فيهما تَقدَّم ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما . ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة .