معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

قوله تعالى : { فتلقى } . والتلقي : هو قبول عن فطنة وفهم ، وقيل : هو التعلم .

قوله تعالى : { آدم من ربه كلمات } . قراءة العامة : آدم برفع الميم ، وكلمات بخفض التاء . قرأ ابن كثير : آدم بالنصب ، كلمات برفع التاء يعني جاءت الكلمات آدم من ربه ، وكانت سبب توبته . واختلفوا في تلك الكلمات قال سعيد بن جبير و مجاهد و الحسن : هي قوله " ربنا ظلمنا أنفسنا " الآية . وقال مجاهد و محمد ابن كعب القرظي : هي قوله لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين . وقال عبيد بن عمير : هي أن آدم قال يا رب أرأيت ما أتيت أشيء ابتدعته من تلقاء نفسي أم شيء قدرته علي قبل أن تخلقني ؟ قال الله تعالى : لا بل شيء قدرته عليك قبل أن أخلقك . قال يا رب فكما قدرته قبل أن تخلقني فاغفر لي . وقيل : هي ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء ، قال ابن عباس : بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ، ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً ، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة ، وروى المسعودي عن يونس بن خباب وعلقمة ابن مرثد قالوا : لو أن دموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع داود أكثر حيث أصاب الخطيئة ولو أن دموع داود ودموع أهل الأرض جمعت لكانت دموع آدم أكثر حيث أخرجه الله من الجنة . قال شهر بن حوشب : بلغني أن آدم لما هبط إلى الأرض مكث ثلاثمائة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى .

قوله تعالى : { فتاب عليه } . فتجاوز عنه .

قوله تعالى : { إنه هو التواب } . يقبل توبة عباده .

قوله تعالى : { الرحيم } . بخلقه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

30

ونهض آدم من عثرته ، بما ركب في فطرته ، وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها .

( فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم ) . .

وتمت كلمة الله الأخيرة ، وعهده الدائم مع آدم وذريته . عهد الاستخلاف في هذه الأرض ، وشرط الفلاح فيها أو البوار .

/خ39

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَتَلَقّىَ آدَمُ مِن رّبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }

قال أبو جعفر : أما تأويل قوله : فَتَلَقّى آدَمُ فقيل إنه أخذ وقبل ، وأصله التفعل من اللقاء كما يتلقى الرجل الرجل يستقبله عند قدومه من غيبة أو سفر ، فكذلك ذلك في قوله : فَتَلَقّى كأنه استقبله فتلقاه بالقبول ، حين أوحى إليه ، أو أخبر به . فمعنى ذلك إذا : فلقّى الله آدمَ كلمات توبة فتلقاها آدم من ربه وأخذها عنه تائبا فتاب الله عليه بقيله إياها وقبوله إياها من ربه . كما :

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ الآية ، قال : لقاهما هذه الآية : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .

وقد قرأ بعضهم : «فَتَلَقّى آدَمَ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٌ » فجعل الكلمات هي المتلقية آدم . وذلك وإن كان من وجهة العربية جائزا إذ كان كل ما تلقاه الرجل فهو له متلق وما لقيه فقد لقيه ، فصار للمتكلم أن يوجه الفعْل إلى أيهما شاء ويخرج من الفعل أيهما أحب ، فغير جائز عندي في القراءة إلا رفع «آدم » على أنه المتلقي الكلمات لإجماع الحجة من القراء وأهل التأويل من علماء السلف والخلف على توجيه التلقي إلى آدم دون الكلمات ، وغير جائز الاعتراض عليها فيما كانت عليه مجمعة بقول من يجوز عليه السهو والخطأ .

واختلف أهل التأويل في أعيان الكلمات التي تلقاها آدم من ربه ، فقال بعضهم بما :

حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن قيس ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ قال : أي ربّ ألم تخلقني بيدك ؟ قال : بلى ، قال : أي ربّ ألم تنفخ فيّ من روحك ؟ قال : بلى ، قال : أي ربّ ألم تسكني جنتك ؟ قال : بلى ، أي ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك ؟ قال : بلى ، قال : أرأيت إن أنا تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة ؟ قال : نعم . قال : فهو قوله : فَتَلَقّى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ .

وحدثني عليّ بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن قيس بن الربيع ، عن عاصم بن كليب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوه .

وحدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ قال : إن آدم قال لربه إذ عصاه ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ فقال له ربه : إني راجعك إلى الجنة .

وحدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَتَلَقّى آدَمُ منْ رَبّهِ كَلِماتٍ ذكر لنا أنه قال : يا ربّ أرأيت إن أنا تبت وأصلحت ؟ قال : إني إذا راجعك إلى الجنة . قال : وقال الحسن إنهما قالا : رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلماتٍ قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة ، قال : يا ربّ أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ فقال الله : إذا أرجعك إلى الجنة . فهي من الكلمات . ومن الكلمات أيضا : رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ قال : ربّ ألم تخلقني بيدك ؟ قيل له : بلى ، قال : ونفخت فيّ من روحك ؟ قيل له : بلى ، قال : وسبقت رحمتك غصبك ؟ قيل له : بلى ، قال : ربّ هل كنت كتبت هذا عليّ ؟ قيل له : نعم ، قال : ربّ إن تبت وأصلحت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ قيل له : نعم . قال الله تعالى : ثُمّ اجْتَباهُ رَبهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدَى .

وقال آخرون بما :

حدثنا به محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، قال : حدثني من سمع عبيد بن عمير ، يقول : قال آدم : يا ربّ خطيئتي التي أخطأتها أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني ، أو شيء ابتدعته من قبل نفسي ؟ قال : بلى شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك . قال : فكما كتبته عليّ فاغفره لي قال : فهو قول الله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كلِماتٍ .

وحدثنا ابن سنان ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، قال : أخبرني من سمع عبيد بن عمير بمثله .

وحدثنا ابن سنان ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عمن سمع عبيد بن عمير يقول : قال آدم ، فذكر نحوه .

وحدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد العزيز بن رفيع ، قال : أخبرني من سمع عبيد الله بن عمير بنحوه .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عبد العزيز ، عن عبيد بن عمير بمثله .

وقال آخرون بما :

حدثني به أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا حصين بن عبد الرحمن ، عن حميد بن نبهان ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية أنه قال : قوله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ فَتاب عَلَيْهِ قال آدم : اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، أستغفرك وأتوب إليك ، تب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم .

وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو غسان ، قال : أنبأنا أبو زهير ، وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : أخبرنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان وقيس جميعا عن خصيف ، عن مجاهد في قوله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ قال قوله : رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسنَا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا حتى فرغ منها .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثني شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، كان يقول في قول الله : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ الكلمات : اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين . اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربي إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين . اللهمّ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إني ظلمت نفسي فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم .

وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ قال : هو قوله : ربنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لمْ تَغفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا الآية .

وحدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ قال : أي ربّ أتتوب عليّ إن تبت ؟ قال : نعم فتاب آدم ، فتاب عليه ربه .

وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَتَلَقّى آدمُ مِنْ رَبّهِ كَلِماتٍ قال : هو قوله : ربّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإن لمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الخَاسِرِينَ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو قوله : رَبّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنّ مِنَ الخاسِرِينَ .

وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه وإن كانت مختلفة الألفاظ ، فإن معانيها متفقة في أن الله جل ثناؤه لقّى آدم كلمات ، فتلقاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن وتاب بقيله إياهن وعمله بهن إلى الله من خطيئته ، معترفا بذنبه ، متنصلاً إلى ربه من خطيئته ، نادما على ما سلف منه من خلاف أمره . فتاب الله عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه وندمه على سالف الذنب منه .

والذي يدلّ عليه كتاب الله أن الكلمات التي تلقاهن آدم من ربه هنّ الكلمات التي أخبر الله عنه أنه قالها متنصلاً بقيلها إلى ربه معترفا بذنبه ، وهو قوله : رَبّنا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكونَن مِنَ الخَاسِرِينَ وليس ما قاله من خالف قولنا هذا من الأقوال التي حكيناها بمدفوع قوله ، ولكنه قول لا شاهد عليه من حجة يجب التسليم لها فيجوز لنا إضافته إلى آدم ، وأنه مما تلقاه من ربه عند إنابته إليه من ذنبه .

وهذا الخبر الذي أخبر الله عن آدم من قيله الذي لقاه إياه فقاله تائبا إليه من خطيئته ، تعريف منه جل ذكره جميع المخاطبين بكتابه كيفية التوبة إليه من الذنوب ، وتنبيه للمخاطبين بقوله : كَيْفَ تَكْفُرونَ باللّهِ وكُنْتُمْ أَمْوَاتا فأحْياكُمْ على موضع التوبة مما هم عليه من الكفر بالله ، وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته مع تذكيره إياهم من السالف إليهم من النعم التي خصّ بها أباهم آدم وغيره من آبائهم .

القول في تأويل قوله تعالى : فَتابَ عَلَيْهِ .

قال أبو جعفر : وقوله : فَتابَ عَلَيْهِ يعني على آدم ، والهاء التي في «عليه » عائدة على «آدم » . وقوله : فَتابَ عَلَيْهِ يعني رزقه التوبة من خطيئته . والتوبة معناها الإنابة إلى الله والأوبة إلى طاعته مما يكره من معصيته .

قال أبو جعفر وتأويل قوله : إنّهُ هُوَ التَوّابُ الرّحِيمُ أن الله جل ثناؤه هو التواب على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه .

وقد ذكرنا أن معنى التوبة من العبد إلى ربه : إنابته إلى طاعته ، وأوبته إلى ما يرضيه بتركه ما يسخطه من الأمور التي كان عليها مقيما مما يكرهه ربه ، فكذلك توبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك ، ويتوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه ، ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه .

وأما قوله : الرّحِيمُ فإنه يعني أنه المتفضل عليه مع التوبة بالرحمة ، ورحمته إياه إقالة عثرته وصفحه عن عقوبة جرمه .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

جاء بالفاء إيذاناً بمبادرة آدم بطلب العفو . والتلقي استقبال إكرام ومسرة قال تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] ووجه دلالته على ذلك أنه صيغة تفعل من لقيه وهي دالة على التكلف لحصوله وتطلبه وإنما يتكلف ويتطلب لقاء الأمر المحبوب بخلاف لاقى فلا يدل على كون الملاقى محبوباً بل تقول لاقى العدو . واللقاء الحضور نحو الغير بقصد أو بغير قصد وفي خير أو شر ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } [ الأنفال : 45 ] الآية فالتعبير بتلقى هنا مؤذن بأن الكلمات التي أخذها آدم كلمات نافعة له فعلم أنها ليست كلمات زجر وتوبيخ بل كلمات عفو ومغفرة ورضى وهي إما كلمات لقنها آدم من قبل الله تعالى ليقولها طالباً المغفرة وإما كلمات إعلام من الله إياه بأنه عفا عنه بعد أن أهبطه من الجنة اكتفاء بذلك في العقوبة ، ومما يدل على أنها كلمات عفو عطف { فتاب عليه } بالفاء إذ لو كانت كلمات توبيخ لما صح التسبب .

وتلقي آدم للكلمات إما بطريق الوحي أو الإلهام . ولهم في تعيين هذه الكلمات روايات أعرضنا عنها لقلة جدوى الاشتغال بذلك ، فقد قال آدم الكلمات فتيب عليه فلنهتم نحن بما ينفعنا من الكلام الصالح والفعل الصالح .

ولم تذكر توبة حواء هنا مع أنها مذكورة في مواضع أخرى نحو قوله : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لظهور أنها تتبعه في سائر أحواله وأنه أرشدها إلى ما أرشد إليه ، وإنما لم يذكر في هذه الآية لأن الكلام جرى على الابتداء بتكريم آدم وجعله في الأرض خليفة فكان الاعتناء بذكر تقلباته هو الغرض المقصود .

وأصل معنى تاب رجع ونظيره ثاب بالمثلثة ، ولما كانت التوبة رجوعاً من التائب إلى الطاعة ونبذاً للعصيان وكان قبولها رجوعاً من المتوب إليه إلى الرضى وحسن المعاملة وصف بذلك رجوع العاصي عن العصيان ورجوع المعصي عن العقاب فقالوا تاب فلان لفلان فتاب عليه لأنهم ضمنوا الثاني معنى عطف ورضى فاختلاف مفادي هذا الفعل باختلاف الحرف الذي يتعدى به وكان أصله مبنياً على المشاكلة .

والتوبة تتركب من علم وحال وعمل ، فالعلم هو معرفة الذنب والحال هو تألم النفس من ذلك الضرر ويسمى ندماً ، والعمل هو الترك للإثم وتدارك ما يمكن تداركه وهو المقصود من التوبة ، وأما الندم فهو الباعث على العمل ولذلك ورد في الحديث : " الندم توبة " قاله الغزالي ، قلت : أي لأنه سببها ضرورة أنه لم يقصر لأن أحد الجزءين غير معرفة .

ثم التعبير بتاب عليه هنا مشعر بأن أكل آدم من الشجرة خطيئة إثم غير أن الخطيئة يومئذ لم يكن مرتباً عليها جزاءُ عقاب أخروي ولا نقص في الدين ولكنها أوجبت تأديباً عاجلاً لأن الإنسان يومئذ في طور كطور الصبا فلذلك لم يكن ارتكابها بقادح في نبوءة آدم على أنها لا يظهر أن تعد من الكبائر بل قصارها أن تكون من الصغائر إذ ليس فيها معنى يؤذن بقلة اكتراث بالأمر ولا يترتب عليه فساد ، وفي عصمة الأنبياء من الصغائر خلاف بين أصحاب الأشعري وبين الماتريدي وهي في كتب الكلام ، على أن نبوءة آدم فيما يظهر كانت بعد النزول إلى الأرض فلم تكن له عصمة قبل ذلك إذ العصمة عند النبوءة .

وعندي وبعضه مأخوذ من كلامهم أن ذلك العالم لم يكن عالم تكليف بالمعنى المتعارف عند أهل الشرائع بل عالم تربية فقط فتكون خطيئة آدم ومعصيته مخالفة تأديبية ولذلك كان الجزاء عليها جارياً على طريقة العقوبات التأديبية بالحرمان مما جره إلى المعصية ، فإطلاق المعصية والتوبة وظلم النفس على جميع ذلك هو بغير المعنى الشرعي المعروف بل هي معصية كبيرة وتوبة بمعنى الندم والرجوع إلى التزام حسن السلوك ، وتوبة الله عليه بمعنى الرضى لا بمعنى غفران الذنوب ، وظلم النفس بمعنى التسبب في حرمانها من لذات كثيرة بسبب لذة قليلة فهو قد خالف ما كان ينبغي أن لا يخالفه ويدل لذلك قوله بعد ذلك : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي إلى قوله خالدون } [ البقرة : 38 ، 39 ] فإنه هو الذي بين به لهم أن المعصية بعد ذلك اليوم جزاؤها جهنم فأورد عليّ بعض الحذاق من طلبة الدرس أنه إذا لم يكن العالم عالم تكليف فكيف كفر إبليس باعتراضه وامتناعه من السجود ؟ فأجبته بأن دلالة ألوهية الله تعالى في ذلك العالم حاصلة بالمشاهدة حصولاً أقوى من كل دلالة زيادة على دلالة العقل لأن إبليس شاهد بالحس الدلائل على تفرده تعالى بالألوهية والخلق والتصرف المطلق وبعلمه وحكمته واتصافه بصفات الكمال كما حصل العلم بمثله للملائكة فكان اعتراضه على فعله والتغليط إنكاراً لمقتضى تلك الصفات فكان مخالفة لدلائل الإيمان فكفر به . وأما الأمر والنهي والطاعة والمعصية وجزاء ذلك فلا يتلقى إلا بالإخبارات الشرعية وهي لم تحصل يومئذ وإنما حصلت بقوله تعالى لهم : { فمن تبع هداي } الآية فظهر الفرق .

وقرأ الجمهور { آدم } بالرفع و { كلمات } بالنصب ، وقرأه ابن كثير بنصب { آدم } ورفع { كلمات } على تأويل { تلقى } بمعنى بلغته كلمات فيكون التلقي مجازاً عن البلوغ بعلاقة السببية .

وقوله : { إنه هو التواب الرحيم } تذييل وتعليل للجملة السابقة وهي { فتاب عليه } لأنه يفيد مفادها مع زيادة التعميم والتذييل من الإطناب كما تقرر في علم المعاني . ومعنى المبالغة في التواب أنه الكثير القبول للتوبة أي لكثرة التائبين فهو مثال مبالغة من تاب المتعدي بعلى الذي هو بمعنى قبول التوبة إيذان بأن ذلك لا يخص تائباً دون آخر وهو تذييل لقوله : { فتلقى آدم من ربه } المؤذن بتقدير تاب آدم فتاب الله عليه على جعل التواب بمعنى الملهم لعباده الكثيرين أن يتوبوا فإن أمثلة المبالغة قد تجيء من غير التكاثر فالتواب هنا معناه الملهم التوبة وهو كناية عن قبول توبة التائب .

وتعقيبه بالرحيم لأن الرحيم جار مجرى العلة للتواب إذ قبوله التوبة عن عباده ضرب من الرحمة بهم وإلا لكانت التوبة لا تقتضي إلا نفع التائب نفسه بعدم العود للذنب حتى تترتب عليه الآثام ، وأما الإثم المترتب فكان من العدل أن يتحقق عقابه لكن الرحمة سبقت العدل هنا بوعد من الله .