النكت و العيون للماوردي - الماوردي  
{فَتَلَقَّىٰٓ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ} (37)

قوله عز وجلَّ : { فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلَمَاتٍ فَتابَ عَلَيْهِ } :

أما " الكلام " فمأخوذ من التأثير ، لأن له تأثيراً في النفس بما يدلُّ عليه من المعاني ؛ ولذلك سُمِّيَ الجُرْحُ كَلْماً لتَأْثِيره في البدن ، واللفظُ مشتق من قولك : لفظت الشيء ، إذا أخْرجْتَهُ من قلبك .

واختُلِفَ في الكلمات التي تلقَّاها آدم من ربِّه على ثلاثة أقاويل :

أحدها : قوله :

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ }{[93]} وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وابن زيد .

والثاني : قول آدم : اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، ربِّ إني ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت ، سبحانك وبحمدك ، إنِّي ظلمت نفسي ، فتُب عليَّ ، إِنَّك أنت التوابُ الرحيم ، وهذا قول مجاهد .

والثالث : أن آدم قال لربِّه إذ عصاه : ربِّ أرأيت إن تبت وأصلحت ؟ فقال ربُّه : إني راجعك إلى الجنَّةِ ، وكانت هي الكلمات التي تلقاها من ربه ، وهذا قول ابن عباسٍ .

قوله عز وجل : { فَتَابَ عَلَيْهِ } ، أي قبل توبته ، والتوبةُ الرجوع ، فهي من العبد رجوعه عن الذنب بالندم عليه ، والإقلاع عنه ، وهي من الله تعالى على عبده ، رجوع له إلى ما كان عليه .

فإن قيل : فِلمَ قال : { فَتَابَ عَلَيْهِ } ، ولم يقُلْ : فتابَ علَيْهِما ، والتوبة قد توجهت إليهما ؟ قيل : عنه جوابان :

أحدهما : لما ذكر آدم وحده بقوله : { فَتَلَّقى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ } ، ذكر بعده قبول توبته ، ولم يذكر توبة حوَّاء وإن كانت مقبولة التوبة ، لأنه لم يتقدم ذكرها .

والثاني : أن الاثنين إذا كان معنى فعلهما واحداً ، جاز أن يذكرَ أحدهما ، ويكونَ المعنى لهما ، كما قال تعالى :

{ وَإذَا رَأَوا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا }{[94]} وكما قال عز وجل :

{ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ }{[95]} .

قوله عز وجل : { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ، أي الكثيرُ القبولِ للتوبةِ ، وعقَّبه بالرحمة ، لئلا يخلِّيَ الله تعالى عباده من نِعَمِهِ .

37


[93]:- الآية 23 من الأعراف.
[94]:- إليها: أي إلى التجارة لأنها كانت مقصود القوم مع أن الآية ذكرت التجارة واللهو. آية 11 الجمعة.
[95]:- سورة التوبة 62.